روسيا بين القذافي وحفتر

بسام مقداد
الأربعاء   2020/01/15
استضافت موسكو ، الإثنين، حدثين أرادت منهما التأكيد على أنها العاصمة ، التي لم يعد من الممكن تجاهلها ، وأصبحت كل "طرقات الشرق الأوسط تؤدي إليها" . فقد جمعت في الحدث الأول مسؤول مخابرات النظام السوري مع مسؤول المخابرات التركي ، وهو ما كان يبدو شبه مستحيل قبل زلزال اغتيال قاسم سليماني ، وزيارة بوتين لدمشق ، التي تظللت هذا الزلزال . وجمعت في الحدث الثاني تركيا و"بطلي" الحرب الأهلية الليبية ، على أمل ترسيم "استانة" ليبية ، تستبق بها مع تركيا مؤتمر برلين القادم بشأن المأساة الليبية . 

وإذا كانت نوفوستي لم تلتفت كثيراً للحدث الأول ، ولم تكلف نفسها عناء ذكر أسماء المجتمعين ، حيث اعتبرت ، كما يبدو ، أن مجرد انعقاده هو "انتصار" جديد يحسب لها ، وهو ليس إلا تتمة لزيارة بوتين إلى عامله في دمشق . لكنها أولت في المقابل ، اهتماماً كبيراً بالحدث الثاني ، ولم تكن تتوقع الصفعة ، التي وجهها لها صنيعتها في ليبيا، الفلدمارشال خليفة حفتر. وتجند إعلام الكرملين منذ صباح الثلاثاء في 14 من الجاري ، لتبرير مغادرة حفتر موسكو من دون التوقيع على اتفاقية الهدنة مع حكومة فايز سراج ، وإستبعاد شبهة الفشل الذريع للإجتماع . فقد استنجدت نوفوستي بالمستشار الروسي السابق لممثل الأمم المتحدة في سوريا ، كبير علماء معهد الإستشراق فيتالي نعومكين ، ليشهد بأن رفض الفلدمارشال حفتر التوقيع على اتفاقية الهدنة ، لا يشير إلى "عدم نجاح المفاوضات بشأن ليبيا في موسكو" ، ومجرد حضور حفتر وسراج إلى موسكو هو تقدم إلى الأمام . ويبرئ نعومكين حفتر من مسؤولية تعطيل المفاوضات ، التي جرت بالواسطة بين الفريقين ، بل لا يعتبر تصرف حفتر تعطيلاً بالأساس ، لأن عملية السلام الليبية صعبة ، والليبيون يقتلون بعضهم منذ سنوات ، ولا يعني أن مجرد مجيئهم إلى موسكو وتوقيعهم على اتفاقية هدنة ، بأن كل شيئ قد تمت تسويته . 

ويقول نعومكين ، أن فايز سراج كان المبادر للفشل، حيث قال بأنه لا يجلس مع حفتر على الطاولة عينها ، واعتبر الفلدمارشال أن هذه إهانة له . وصحيح أن فايز سراج معترف به من المجتمع الدولي ، لكن لا يمكن لحفتر أن يتنازل عن أوراقه في بعض التقدم ، الذي أحرزه في طرابلس ، وفي انحياز بعض المجموعات المعارضة إلى جانبه . ويرى الرجل أن كلاً من الطرفين يريد أن يأتي إلى مؤتمر برلين من مواقع قوية ، لكنه يعتبر أن مستقبل ليبيا وخريطة طريق التسوية الليبية تبقى من مهمات مؤتمر وطني ليبي عام ، تتبعه إنتخابات عامة . 

لكن ما نقلته نوفوستي صباح الثلاثاء 14 الشهر الجاري من محاولات نعومكين تفادي الإقرار بفشل مفاوضات موسكو الليبية ، وإعفاء صنيعتها الفلدمارشال حفتر من مسؤولية هذا الفشل ، عادت في مساء اليوم نفسه للإقرار بهذا الفشل ومسؤولية حفتر عنه . فقد نشرت لكاتبة الكرملين المعروفة إيرينا الكسنيس ، التي تتنقل بين موقع "بوتين اليوم" الرسمي وصحيفة الكرملين وموقع نوفوستي ، مقالة بعنوان"خطأ الفلدمارشال حفتر في موسكو" ، قالت فيها بأن الآمال ، التي كانت معقودة على جولة موسكو للمفاوضات بشأن التسوية الليبية ، قد فشلت . وتتفق الكاتبة مع نعومكين في الإعتقاد بأن رفض حفتر للتفاوض يمكن تفسيره بالنجاحات العسكرية ، التي تحققت له في الأسابيع الأخيرة ، بعد أشهر من الفشل في الهجوم على طرابلس . وتقول بأنه يمكن تفهم استياء حفتر، الذي كان يلوح  له النصر، "أو وهم النصر" قريباً ، ثم يأتي من يقنعه بالتراجع إلى الوراء ، والتصالح مع خصمه . وبعد أن تؤكد أن دون مثل هذا النصر عقبات ، ليس أقلها دخول تركيا العسكري "ولو المحدود" في الحرب الليبية ، تقول بأن تعطيل مفاوضات موسكو بسبب موقف حفتر ، كان مفاجأة غير سارة لجميع الأطراف المعنيين ، بمن فيهم روسيا . 

وتستفيض الكاتبة في التوجه إلى حفتر بالحديث عن تجربة روسيا في "النصر" الصعب ، الذي حققته في سوريا ، بعد أن سخر منها الجميع في البداية ، وعن أن نصر الجيش الوطني الليبي في الحرب الليبية ، غير مقبول من قبل الدول الكثيرة والأسياسة في العالم ، خاصة من قبل تركيا .  وتقول أن سحق هذا الجيش ليس شرطاً ضروريا لحل هذه المسألة ، بل يكفي فقط منعه من تحقيق النصر ، وهو ما أثبتت السنوات الماضية بأنه أمر ممكن كلياً. وتذكر الكاتبة الفلدمارشال حفتر بمؤتمر برلين القادم في 19 من الشهر الجاري ، وبأن المرحلة المقبلة من التسوية الليبية ، قد تكون جولة جديدة من المفاوضات ، التي قد يقترحون فيها على حفتر شروطاً للتفاوض مع حكومة الوفاق الوطني ، أسوأ من تلك ، التي عُرضت عليه في موسكو ، لكن حينها لن تتوفر له إمكانية الرفض . 

لكن المرارة الأشد لانهيار محادثات موسكو جاءت على لسان القوميين الروس المتشددين في صحيفتهم "SP" ، التي قالت بان الكرملين يفقد سيطرته على النفط الليبي، وبأن موسكو كانت تحلم بالحصول على بلد آخر بعد سوريا ، لكنها لم تتمكن من ذلك حتى الآن . وكعادتها في الإنتقاد الساخر من إخفاقات الكرملين الداخلية والخارجية ، تقول الصحيفة بأن سوريا هي نجاح روسيا الخارجي الرئيسي خلال السنوات العشر الأخيرة ، حيث حافظت موسكو على نظام بشار الأسد وعززته ، وحصلت منه على حق الأولوية في المشاريع الإستثمارية ، وفي إعادة إعمار سوريا . لكن دبلوماسيي موسكو لم يتمكنوا من تكرار "النجاح السوري" ، إذ انتهت مفاوضات الإثنين السلمية بالفشل الذريع ، علماً أن من قام بتعطيل المفاوضات كان من قبل صنيعة موسكو بالذات ، الفلدمارشال حفتر ، على قولها . 

وتعتقد الصحيفة أن وقف إطلاق النار في إدلب كان الشرط ، الذي اشترطته موسكو على أنقرة ، من أجل تسوية قضية الفصائل السورية التابعة لها ، وتمتنع أنقرة عن إرسالهم إلى ليبيا ، مما كان سيعني نزاعاً عسكرياً حقيقياً مع روسيا ، التي تدعم قائد الجيش الوطني الليبي بقيادة الفلدمارشال خليفة حفتر . وكانت الدبلوماسية الروسية المرتاحة لنصرها هذا في سوريا ، تستعد أمس ، في مؤتمر التسوية السلمية في ليبيا ، للتوقيع على الوثيقة ، التي ساهمت في إعدادها ، والتي تتيح لها لعب دور الوسيط في التسوية الليبية . لكن المؤتمر فشل فشلاً ذريعا بسبب رفض الفلدمارشال التوقيع على الوثيقة . وغادر الرجل موسكو ، وفي الصباح تجددت المعارك في طرابلس بشدة أكثر ، وذهبت هباءاً جميع الجهود لمصالحة الأطراف الليبية مع بعضها . 

لكن موقف المواطن الروسي العادي حيال مؤتمر المصالحة الليبية ، الذي أثار فشله كل هذه الخيبة والمرارة لدى السياسيين الروس ، عبر عنه الصحافي الإذاعي الروسي أنطون أوريخ  ، المعروف ببرامجه المخصصة للأطفال ، في تعليقه ، الذي نقله موقع "rosbalt" المشتبه بميوله اليسارية . فقد كتب الرجل تحت عنوان "روسيا للتصدير" يعترف بأنه لا يعرف ليبيا ، ولا يهتم بمن يزور موسكو ، ولماذا ، وما هي النتائج المترتبة على كل هذه المفاوضات. لكن ما يُضحكه أن الكوماندته (غيفارا) الليبي يجب أن لا يحمل رتبة أقل من الفلدمارشال ، وأن أيام القذافي ، الذي كان عقيداً ، يبدو أنها قد ولت . 

ويقول الرجل أن ضحكه يتناقض مع موقف قادة البلاد المنهمكين في المفاوضات ومصالحة الفرقاء المتنازعين في ليبيا البعيدة ، ويعتبرون الأمر مهمة فائقة الأهمية . ويعتبر أنه ، وكما في سنوات الإتحاد السوفياتي ، ثمة نسخة من روسيا للتصدير ، ونسخة منها للإستهلاك المحلي ، ويجهد القادة لإفهام الشعب أن مشاكله الداخلية هي أقل أهمية بكثير من معالجة الوضع المتوتر في العالم . لأربعين سنة خلت كانت روسيا تساعد دولا أخرى وتهتم بها وتقلق بشأنها ، أما أن تكون متاجر روسيا خالية من المواد الغذائية ، فهذا أمر تافه بالمقارنة مع الثورة العالمية . وأن يتحدث الروس اليوم عن الضرائب والرسوم والأسعار ، فهذا أمر مضجر . لكن أن تناقش القنوات الإتحادية على مدى ساعات قضايا سوريا وليبيا ، فهذا أمر مبهج . 

لم يختلف الأمر اليوم بالنسبة للمواطن الروسي ، بين ما كانت عليه روسيا من هموم وانشغال بليبيا العقيد القذافي وعراق صدام حسين وسوريا حافظ الأسد ، وما هي عليه اليوم من هموم وانشغال بليبيا الماريشال حفتر وسوريا بشار الأسد وإيران الخامنئي .