لا حرب ولا تفاوض

حسن فحص
الأحد   2019/08/18

على الرغم من اعلان طهران استمرارها في تقليص التزاماتها ببعض بنود الاتفاق النووي الموقع بينها وبين مجموعة دول 5+1، وتأكيدها ان مخزون اليورانيوم المخصب بدرجة 4.5 في المئة قد تجاوز الكمية المحددة في الاتفاق ووصل الى ما يقارب 370 كليوغراما، اضافة الى انها بدأت الاعداد لاتخاذ الخطوة الثالثة التي تستمر لمدة ستين يوما ايضا على مسار تقليص الالتزامات، كما اشار رئيس الجمهورية حسن روحاني بعد انتهاء مهلة الستين يوما الثانية التي حددتها طهران للخطوة الثانية، وشرطتها برأي وقرار المرشد الاعلى للنظام حسب ما اكده رئيس منظمة الطاقة الذرية الايرانية علي اكبر صالحي؛ على الرغم من كل هذه الخطوات، الا انها تؤكد بانها على استعداد للتفاوض وان مسار تقليص الالتزامات يمكن ان يكون مسارا ارتكاسيا او تراجعيا في حال تم التوصل الى اتفاق مع الدول الاوروبية خصوصا الترويكا (الفرنسية والالمانية والبريطانية) الموقعة على الاتفاق يضمن لطهران الحصول على ما تريده من آلية التعامل التجاري والمالي التي اقرتها هذه الدول وان تشمل ضمانات اوروبية لايران ببيع انتاجها النفطي والحصول على عائداته المالية الى جانب التعاملات التجارية الاخرى التي تشملها هذه الالية.

تذهب التكهنات حول الخطوة الثالثة الايرانية الى تقدير بامكانية ان تشمل اطلاق العمل على تفعيل نشاط مفاعل اراك للماء الثقيل المخصص لانتاج البلوتونيوم، اضافة الى امكانية ان تعمد الى تركيب اجهزة طرد مركزي متطورة في كل من منشأتي نطنز وفردو، او ان تعمد الى رفع عدد اجهزة الطرد التي سمح الاتفاق النووي ببقائها فعالة وعددها 5016 جهازاً بحيث تستطيع تسريع عملية التخصيب ورفع مستوياتها الى درجة 20 في المئة باقصر وقت ممكن. وهو أمر بدأت تتوقعه بعض دوائر القرار في الادارة الاميركية التي لا تتردد في التعبير عن اعتقادها بان ايران "ليست على عجلة للوصول الى انتاج مواد نووية تستخدم في تصنيع قنبلة نووية" كما يقول الدبلوماسي الاميركي السابق دنيس روس، الا ان ما ستقوم به سيقلص المدة الزمنية التي تسمح لها بالوصول الى القدرة النووية على مستوى تصنيع الاسلحة؛ يضيف روس. 

الخطوات الايرانية التصعيدية في المجال النووي، جاءت اولا نتيجة للتردد الاوروبي في ترجمة وعود في الحفاظ على الاتفاق النووي وتقديم الحوافز النفطية والمالية التي تساعد النظام الايراني للاستمرار في الالتزام بهذا الاتفاق، وثانيا ولعله الاهم نتيجة "العقوبات الخانقة" التي فرضتها ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب ضد طهران بعد الغاء الاعفاءات التي منحها لثمانية دول لمدة ستة اشهر لاستيراد وشراء النفط الايراني، ما ساهم في تراجع صادرات ايران النفطية من مليون برميل على الاقل في اليوم الى دون الخمسمئة الف برميل، الامر الذي اوجد ضغوطا اقتصادية كبيرة وملموسة على الوضع الداخلي، ما دفعها الى التفتيش عن آليات للرد على ذلك من خلال اللجوء لممارسة ضغوط محرجة من قبلها على الادارة الاميركية من بوابة البرنامج النووي ما يعقد الآليات التي تعتمدها واشنطن للسيطرة ومحاصرة ايران. 

الادارة الاميركية وقبل اسبوع من انتهاء المهلة التي حددتها (ستة اشهر) للاعفاءات النفطية، قامت عبر وزارة الخارجية بابلاغ الدول المشمولة بهذه الاعفاءات بانها ستعمد الى تمديد هذه المهلة، انطلاقا من رؤية لدى مسؤولي الخارجية بان هذا القرار سيكون الافضل في التعامل مع ردات الفعل الايرانية، فهذه الاعفاءات ستساهم في ابقاء الاقتصاد الايراني في حالة من عدم الثبات والارباك في ظل استمرار الضغوط، لكنه يسمح ويساعد في ابقاء ايران ملتزمة بتعهداتها بما جاء في الاتفاق النووي، ما يعني تقليل المخاوف الاميركية من تداعيات قرار الالغاء وامكانية انسحاب طهران من الاتفاق والتفكير في آليات التعامل مع ذلك. وقد جاءت الاشارة في الرد على الموقف الاميركي بتصفير صادرات النفط من مرشد النظام مباشرة عندما اعلن في التاسع والعشرين من أيار مايو بان الهدف الاميركي هو اجبار ايران على الجلوس الى طاولة المفاوضات من موقع الضعيف وهذا لن يحدث لان ايران ستستخدم بكل ما لديها من اوراق تملكها. فكان ان اعلن روحاني قرار تقليص الالتزامات من دون الانسحاب من الاتفاق النووي. 

وعلى الرغم من ردة الفعل الايرانية، الا ان روحاني ووزير خارجيته وادارته الدبلوماسية قالوا بانه اذا عادت واشنطن الى الاتفاق النووي او قام الاوروبيون في تأمين المصالح الاقتصادية، فان الاجراءات المتخذة في تقليص الالتزامات يمكن ان تسلك طريقا عكسيا، الامر الذي مازالت طهران تنتظره بالتزامن مع التمسك بمسار تقليص هذه الالتزامات.

المسار الذي سلكه تطور الاحداث والمفاوضات المعقدة التي تخوضها طهران مع الترويكا الاوروبية خصوصا الجانب الفرنسي قاد الطرفين الى رؤية مشتركة تقوم على امكانية التوصل الى تفاهم تلتزم بموجبه ايران عدم الانسحاب من الاتفاق والمساعدة في تخفيف التوتر الاقليمي مقابل ان تعمد ادارة ترامب الى التراجع عن قرار الغاء الاعفاءات النفطية، بما يسمح لطهران العودة الى تصدير نفطها ان كان عبر آلية التعامل المالي والتجاري "انستكس" التي شكلتها مع الترويكا الاوروبية او عبر آلياتها القديمة المباشرة، بما فيها الحصول على عائدات هذه الصادرات المالية. 

ولا تخفي مصادر ايرانية ان السبب في الهجوم الذي شنه الرئيس ترامب على نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون يعود الى هذه الالية التي تم التداول بها مع الجانب الايراني، اضافة الى امكانية التفاوض حول وضع آلية تسمح لواشنطن العودة الى الاتفاق النووي من خلال اعلان طهران استعدادها لبحث تعديل البنود المتعلقة بالمدد الزمنية التي تتعلق بتخصيب اليورانيوم، وان يعاد صياغتها بحيث يستمر الحظر الى عشرين او خمسة وعشرين سنة اخرى بدل ان ينتهي بعد سنة او ست سنوات، والتي تشكل مصدر قلق لواشنطن عبر عنه بوضوح وزير الخارجية مايك بومبيو الاسبوع الماضي. هذا اضافة الى التوصل لتفاهم حول البرنامج الصاروخي يضمن قبول طهران بتحديد ترسانتها الصاروخية والقواعد العسكرية في سوريا واعادة هيكلة دور حليفها حزب الله على الساحة اللبنانية. 

وتؤكد هذه المصادر ان هذه الرؤية الفرنسية لن تكون ممكنة ما لم تأخذ واشنطن بعين الاعتبار الهواجس الايرانية، خصوصا ما يتعلق بقرار رفع العقوبات الاميركية ضدها، بمختلف مسمياتها التي لا تقتصر على تلك المتعلقة بالملف النووي، بل ايضا تلك التي تتعلق بحقوق الانسان والارهاب، وهو ما سبق لها ان طالبت به خلال مفاوضاتها مع ادارة الرئيس السابق باراك اوباما ولم تحصل عليه بالكامل، وفي حال لم تحصل على ما تريده فانها تفضل الاستمرار بالمسار الذي بدأته في تقليص التزاماتها طالما ان المرشد سبق ان رسم مستقبل الازمة من خلال التأكيد على معادلة "لا حرب ولا تفاوض" وطالما انها غير قلقة من الضغوط الاقتصادية وانها لن تتسبب في ضرب الاستقرار الداخلي.