وفي الحروب نعامةٌ

أحمد عمر
السبت   2019/12/21
سُئل الأسد قبل أيام في تلفزيون روسيا الإنكليزية عن جرم استخدام الكيماوي فأجاب جوابا مسكتاً، مخرساً، مفحما، عندما قال: لمَ نستخدم السلاح الكيماوي ولدينا أسلحة عادية! وهو يشبه أن تتهم مسافراً بركوب طائرة بتذكرة قطار! فيقول: لمَ أستخدم الطائرة وعندي حنطور! مثال آخر، لمَ يبيع البائع صحيفة تشرين وعنده صحيفة البعث والثورة؟ 

وهو يكثر من المقابلات توطئة للأكناف الأجنبية، فالأكناف الوطنية مضمونة، أو أنَّ طلبات المقابلات تنهال عليه حتى تغرف من فكره النيّر وعقله الوضّاء. ربما هو يسعى إلى استمالة الدول لإعادة إعمار سوريا التي دمرها الإرهاب، كي يعود إلى هوايته في قص الأشرطة الحريرية، وهواية استقبل وودّع. وفي مقابلة مع قناة "فينيكس" الصينية، سُئل عن أمريكا في سوريا، فكشف الأسد خطة عسكرية ذكية تذكّر بحنكة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص، سنسميها خطة النعامة، في الكرّ والفرّ، وهي: إن "تعامل" سوريا مع الوجود الأمريكي سيكون بضرب الإرهابيين، ما يضعف وجوده على الأرض، ويقنع المجموعات التابعة للقوات الأمريكية بالعودة إلى "حضن الوطن! هذا ما كنا نبغي، لقد رأينا المقاومة والممانعة وها نحن ذا نرى المعاملة والمغازلة!

  ووضّح رئيس النظام السوري أولوية واستراتيجية بلاده في "التعامل" مع الوجود الأمريكي، الذي وصفه بغير الشرعي في سوريا. ولم يصفهم بالمهاجرين أو السائحين مثلاً، أو بالضيوف الثقلاء، وقال إنه عبر هذه الآلية "لن يكون هناك أفق لبقاء الأمريكي في سوريا". وهذا يشبه أن يطلب المرء بأن يمسك أذنه فيمدّ يده اليمنى إلى أذنه اليسرى، سنتذكر أيضاً أن طريق القدس يمر من حلب.

 لم يكن أحد يتوقع أن يصف الاحتلال الأمريكي بالوجود الأمريكي، أو غير الشرعي، وهذه الطريقة الذكية يمكن تشبيهها بطريقة قتل البعوض بتجفيف المستنقعات، لكن الأمريكان ليسوا بعوضاً، والنفط تحت الأرض، والأمريكان يحبونه. وكان الخطاب الإعلامي السوري البعثي قد حوّل تعبير الإمبريالية الشرسة إلى تسبيحة صحافية، مثل الشيطان الأكبر في إيران، لولا علمانية النظام السوري الذي لا يفضِّل إدخال مصطلحات الدين، مثل الله والشيطان في السياسة، وكان سوريون ينتظرون أن يحمل الأسد البندقية ضد الاحتلال الإسرائيلي، على الأقل أمام الكاميرا من أجل إيقاظ الهمم وبعث الحميّة الوطنية، وكان صحافيون لبنانيون يظهرون على التلفاز السوري قد كشفوا لنا سراً مكنوناً قبل عشر سنوات، بأنَّ قراراً قد اتخذ بفتح جبهة الجولان! ولا يعرف سبب تخصيص صحافي لبناني بكشف هذا السرِّ للسوريين، فالحرب خدعة، العدو سيأخذ حيطته الآن والعوض على الله.

 كان لبنان حديقة خلفية لسوريا إعلامياً ومالياً وعسكرياً، والدنيا دَين ووفاء، وها هي ذي سوريا حديقة للبنان. الدنيا يوم لك ويوم عليك. أما أمريكا، فنصف العالم حديقتها الخلفية. كل مكان تحتله حضن لها ووطن.

  الجولان محتل، ويحق لأهله وأصحاب الأرض فتح الجبهة حسب الشرعة الدولية، وجاءت الثورة وصار لها أسماء كثيرة مثل أزمة، وحرب أهلية، ومؤامرة، وكان الأسد يدعم المقاومة. حزب الله الديني هو المقاومة، وحزب البعث العلماني هو الممانعة، "فيفتي فيفتي". وكان الشعب يريد أن يقاوم مثل الشعب اللبناني، لكن المخرج قرر توزيع البطولة مناصفة؛ الآخرة ومعها كل الدنيا لحزب الله، والدنيا من غير آخرة لحزب البعث، وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما - يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا. ويمكن تعليل هذه القسمة أن لبنان يتحمل ضربات إسرائيل وقصفها، فقد عاش حرباً أهلية، واقتحاماً إسرائيلياً، وقد اعتاد لبنان، وللبنان أصدقاء دوليّون مثل فرنسا يدافعون عنه، أما سوريا فلن تتحمل الضرب الإسرائيلي، وهي شام شريف، أرض المنشر والمحشر، ولا يريد النظام التعجيل بالنشر والحشر، فكانت تلك المعادلة: لبنان يقاوم وسوريا تمانع.

وها هي ذي المعادلة قد كسرت، بل إن سوريا نفسها حُطّمت تحطيماً، وهي محتلة من عدة دول صديقة، مثل روسيا وإيران وعدوّة مثل تركيا حسب الخطاب الرسمي، و"غير شرعية" مثل أمريكا، سوى الكتائب الكثيرة، فلمَ لا تطلق سوريا النار على إسرائيل وعندها أسلحة استراتيجية مثل إس 300، وصديق نووي مثل روسيا، وشبه نووي مثل إيران، أو تطلق النيران الصديقة على أمريكا التي تحتل مناطق النفط في وسط سوريا، وليس في الحدائق الخلفية. كما أن جيشه غلب 86 دولة، واكتسب خبرة هائلة! يمكن للأسد أن ينغّص على المحتلين موسم التزلج في الجولان ببعض الألعاب النارية، يمكنه أن ينكّر مجموعات من المخابرات بزيّ الدواعش ويطلق النار حتى يكسب تعاطف الغرب على ربيبتهم إسرائيل فيصيب عصفورين بحجر واحد، وقيل إن سوريا ردّتْ أخيراً على القصف الإسرائيلي على سوريا التي باتت حديقة خلفية لها، فرأينا في فضائية العربية ألعاباً نارية في الليل، ولا يعرف ما مصلحة قناة العربية في الترويج لبطولة النظام السوري، ربما لأن سفارة الإمارات في سوريا، ويقال إن الإمارات ستحاول إنقاذ الليرة السورية التي سقطت في بئر الحرمان.

   قد يقال إن سوريا لن تستطيع مقاتلة دولة عظمى، وقد قاومتها فيتنام، وهزمتها، بل إن الصومال أجبرت أمريكا على جرِّ أذيال الهزيمة بعملية واحدة، وها هي ذي طالبان ترغم أمريكا على التفاوض معها من موقع الندّ، فهذا عذر أقبح من ذنب. 

 تقول المقابلة إنَّ الأسد يحسن الظن كثيراً بأمريكا، فحالما يقضي الأسد على الإرهابيين سيجبر أمريكا على حمل أسلحتها والرحيل، ناسياً أن لأمريكا 300 قاعدة عسكرية في 130 دولة ليس فيها إرهاب، ويظن الأسد أن الإمبريالية الشرسة لن تفكر في دق مسمار جحا في سوريا. خطة الأسد في تحرير سوريا الأسد تذكّر بضباط الجيش أبو شحاطة ومعاركه الشهيرة، مثل: معركة إعدام معتقلين لا حيلة لهم في سجن تدمر، ومثل إعدام مجموعة من الحمير للتسلية..

 لن يعلن مفتي الأسد الجهاد على أمريكا أو إسرائيل، فالجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، إذا استبيحت بيضة الديار الإسلامية، كما يقول الشرع، السيسي نفسه قال عن تجنيد مليون إثيوبي: إن بلاده لا تفكر في الحرب على الحبشة التي منعت عنه الماء، وهو أغلى ما في الحياة، هو يفكر في عقد مزيد من مؤتمرات للشباب، والحرب على ليبيا. لن يحارب الرئيس العربي سوى على جبهة واحدة هي جبهة النصر المضمون: جبهة الشعب. 

قالت العرب: أعدى من نعامةٍ، وأشرد من نعامةٍ.. ويقال للمنهزمين: أضحوا نعاماً.