شرق وغرب لا يلتقيان

عمر قدور
السبت   2018/09/15

ربما لم تبلغ القطيعة بين المشرق العربي والغرب، منذ انتهاء الحقبة الاستعمارية، المستوى الذي نعيشه اليوم، على الرغم من التداخل القائم بين الطرفين. ففي جزء معتبر من المشرق كاد العداء للغرب بعد الاستقلال يقتصر على انحيازه لإسرائيل في المحافل الدولية، واللغة المحايدة أو المنحازة لإسرائيل أثناء العديد من الاعتداءات التي ارتكبتها، وأحياناً بسبب دور الغرب في التغطية على مجازر كبرى. أي أن العداء كان يتعلق بسياسات غربية خارجية، وفي حقبة الحرب الباردة لم يكن خطاب الإسلاميين معادياً للغرب على النحو الذي سنراه بعدها، بينما كان الخطاب القومي يعمل على مستويين؛ معاداة الغرب بوصفه خصماً للطموحات القومية، ومحاولة تمثّل نهضته لمقارعته، بينما تُرك لليساريين أمر العداء له سياسياً وبنيوياً.

مع انطلاق ثورات الربيع العربي بدا كأن شعوب هذه الدول تتقدم لتصبح أقرب إلى الغرب، من خلال تبني مفاهيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن الحكومات الغربية تلكأت عن ملاقاة ذلك التقدم، وتراوحت السياسات الغربية بين الدعم المحدود والانكفاء، وصولاً إلى التواطؤ على طي صفحة الثورات وإعلان اليأس من إمكانية التغيير في المنطقة. تلاقت على هذا الموقف قوى حاكمة وأخرى في المعارضة، وتوزعت هذه القوى بين اليسار واليمين الراديكاليين أو الشعبويين، فضلاً عن تراجع النزعة التدخلية لدى اليمين واليسار التقليديين.

في جهتنا تتقاطع ثلاثة خطابات على العداء للغرب، وتحميله مسؤولية الوضع الحالي فوق مسؤولياته المتراكمة منذ الحقبة الاستعمارية. أول هذه الخطابات هو خطاب الممانعة الذي يرتكز أصلاً على وجود مؤامرة غربية دائمة، ولم يرَ في الثورات العربية "السورية منها خاصة" سوى مؤامرة تستهدف الأنظمة المناهضة لإسرائيل. على ذلك يصبح للغرب وظيفة دائمة هي الحفاظ على المصالح الإسرائيلية، وبدلاً من المقولة القديمة عن كون إسرائيل قاعدة متقدمة للغرب تصبح إسرائيل هي المتحكم الفعلي بالسياسات الغربية، ما يعني انعدام الأفق أمام انتهاء المؤامرة الغربية ما دامت إسرائيل موجودة.

الخطاب الثاني هو الإسلامي الذي بات يرى الغرب عدواً قديماً وأبدياً للإسلام، ووفق هذا الخطاب لن تتوقف المؤامرة الغربية، والقطيعة ستبقى قائمة ما بقي الغرب غرباً. يتقاطع الخطاب الإسلامي مع أسوأ ما في خطابات اليمين المتطرف الغربي من ناحية اعتبار الاختلاف بين الجانبين صراعاً حضارياً، ويتمايز عنه في أن اليمين المتطرف يبني على رؤيته سياسةَ عزلٍ داخلية وانعزال خارجي بينما يبني الإسلاميون سياسة جهاد وتغلّب. وربما كان هذان الطرفان الأكثر انسجاماً، فلا يكون من المصادفة أن يتبادلا تقديم الخدمات، بالطبع من دون وجود تنسيق أو تواطؤ بينهما.

اليسار السابق، الموزع بين الممانعة والانتماء للثورات، لن يكون خطابه مختلفاً. فيسار الممانعة بقي وفياً لعدائه الموروث للغرب، أما اليسار الذي انتمى للثورات العربية، ورأى أن الغرب قد خذله فقد عاد قسم منه إلى تبني الخطاب القديم، إذ وجد فيما يراه تخاذلاً غربياً متعمداً أو تواطؤاً ما كان يراه من قبل في طينة الغرب المعادي للتطلعات التحررية للشعوب. وفق هذا المنظور لن يكون الغرب الرأسمالي سوى ما كان عليه، وما هو عليه الآن، ومشكلة هذا اليسار أنه لا يجد سنداً اليوم في اليسار الغربي الراديكالي المعادي للثورات العربية بدعوى أسلمتها، وبسبب إعجابه بالنموذج البوتيني، ولا يجد سنداً في الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي تواجه الانحسار لصالح اليمين واليسار الشعبوي بحيث يبدو التراجع لصالح اليمين التقليدي أخف وطأة.

بين الخطابات الثلاثة لا يندر أن نجد خليطاً من اثنين منهما أو أكثر بنسب متفاوتة، ولا يندر أن نجد عداء مستجداً للغرب بتماسك أيديولوجي أقل، وأيضاً سيكون الأساس فيه ما يُرى تخاذلاً غربياً عن دعم الديموقراطية في المنطقة، مع اعتباره أصيلاً ضمن التوجهات الغربية بحيث ينبغي عدم الرهان مرة أخرى على دعم غربي. جزء من هذا الوعي الشقي سيبني على مظلومية مختلفة، مفادها الرغبة في الانتماء إلى الغرب وتمنّع الأخير عن القبول به شريكاً، وربما يكون أصحابه هم الأضعف حجة وقوة بالمقارنة مع الخطابات الأخرى الجذرية.

على الصعيد الرسمي ليست العلاقة الرسمية بين الغرب والمشرق في أحسن أحوالها، مع تأرجح علاقة الأول بإيران صعوداً وهبوطاً، وما يشبه رعاية للانقسام الخليجي. علاقة التحالف الراسخ القديمة مهددة بالخلاف في العديد من الملفات، واستقرار بعض دول الخليج مهدد بتغيرات السياسة الغربية. بالتزامن مع ذلك أتى الدخول إلى الروسي إلى المنطقة، عبر البوابة السورية، ليضيف تعقيدات على ملامح مستقبل المنطقة ككل.

في المحصلة ما يطغى اليوم على العلاقة بين الطرفين وجود غربي ينحصر اهتمامه بترتيب أوضاع المشرق بحيث لا تكون مصدر قلق أو تهديد للغرب، مع سياسة قصيرة النظر تعتمد الحلول الأمنية وتعتمد القوى القمعية المحلية. في المقابل تطغى موجات اللجوء الأخيرة على تواجد المشرق في الغرب، وهذه العلاقة الاضطرارية لا تمثّل لجوءاً ثقافياً، ولا يحمل قسم من أصحابها للدول المضيفة ما تنتظره الأخيرة من امتنان واندماج بقدر ما يحملون لوماً مرده سياسات الدول المضيفة التي ساهمت في إيصالهم إليها.

تنذر القطيعة الحالية بأن تكون الأسوأ بين المشرق العربي والغرب، ولا يُتوقع من الدور الروسي "المقبول غربياً" سوى خلق أزمات جديدة، فلا يلبي حاجة غربية مطلوبة للتحاجز بين الطرفين. لن يكون داعش وأمثاله المظهر الوحيد للأزمة، فاليأس المعمم في المنطقة وإن كان سيرتد على أبنائها أولاً إلا أنه سيفيض إلى جوارها الأوروبي. السياسة الغربية الآن على محك أربعة ملفات، تسليم سوريا نهائياً لموسكو وطهران، وتسليم العراق كاملاً لطهران بتسهيل جهودها بتجيير الانتخابات العراقية الأخيرة لنفوذها، وتسهيل سيطرة حزب الله على مؤسسات الحكم في لبنان، وأخيراً صفقة القرن التي يُرجح أنها تتضمن إنهاء حقوق أساسية للشعب الفلسطيني. إذا مضت السياسات الغربية في هذا الاتجاه فلن يكون علينا فقط توقع الكارثة، بل على الغرب أيضاً انتظارها الذي قد لا يطول.