ما الذي يحدث للمصريين؟

محمد طلبة رضوان
الأحد   2018/08/26

يحدث في مصر الآن، أم تقتل طفليها، وتفرمهما، أحدهما عمره خمسة سنوات، والآخر عمره شهور، انتقاما من زوجها، ونكاية فيه،آخر يلقي أطفاله في مصرف، أطفال يذبحون وتقطع أوصالهم، ويتم إلقاؤها في ترعة المريوطية، وحين العثور عليهم تهتم الجهات المسؤولة، مشكورة، بأن تنفي أن الحادث وقع للاتجار بالأعضاء. على شاطئ الاسكندرية امرأة خمسينية متشحة بالسواد، تجلس على البحر بجوار زوجها، يتحرش بها شاب، يعاتبه زوجها، فيغضب المتحرش، يسحب سكينا ويقتله، (يقتل الزوج!)..

يمكنك أن تُفَرع من هذه الأخبار مقامات وأحوال المصريين مع بعضهم البعض، في الشوارع .. المواصلات .. المصالح الحكومية .. طوابير الخبز .. المقاهي .. وحتى دور العبادة، العنف عنوان عريض، وتنوع أشكاله وتطورها من اللفظي إلى استخدام السلاح، في شعب ثقافته زراعية، لم يحمل السلاح يوما على محتليه وجلاديه، لكنه اليوم يحمله على بعضه البعض، ويقتل لأتفه الأسباب ...

الظاهرة، بالنسبة للمصريين، استثنائية، قد يحمل الفقر كثيراً من الناس إلى الضجر .. اليأس .. العصبية .. الانتحار .. وربما القتل أحيانا، لكن ليس قتل أبنائهم، ليس قتل أزواجهم أو زوجاتهم من أجل مشادة، ليس أن يقتل راهب، في كنيسة أو دير، صاحبه، داخل الكنيسة .. ما يحدث أكبر من قدرة استيعاب كتاب التاريخ نفسه، إذا كنا نتحدث عن تاريخ "المحروسة"، .. فما الذي يحدث للمصريين؟

يقول زييغمونت باومان، عالم الاجتماع الشهير، إن الخوف والشر لصيقان، يصعب أن يتحرك أحدهما دون الآخر، في مصر الآن لا يوجد "قاعدة" واحدة يمكنك أن ترتكن إليها لتضمن أنك بمعزل عن السجن أو الإعتقال أو الاتهام بالانضمام لجماعة إرهابية، لا شيء يحميك، الكلام عن القانون هنا مزحة سخيفة، إنما أتحدث عن القوة، الثراء، النفوذ، القيمة العلمية .. الفكرية .. الاجتماعية .. سابق الفضل، لا شيء على الإطلاق، رئيس أركان حرب الجيش المصري رهن الإعتقال، يوشك أن يموت في محبسه، لأنه "نوى" الترشح للرئاسة، سبقه آخرون، من جميع الرتب، الفنانون في السجن، المثقفون في السجن، الدبلوماسيون في السجن، أبطال حرب أكتوبر، شباب يناير، حلفاء ٣٠ يونية، الذين جاءوا بالسيسي وأيدوه وتوسموا فيه "ناصر" جديداً، الذين روجوا له وقدموه للناس، الجميع في السجن، لا يوجد شيء يمكن أن تفعله كي تنجو، فالنجاة نفسها رهن الاعتقال ..

البرلمان، إن جازت التسمية، يقنن الخوف، لا يكفي أن يخاف السياسيون من السياسة، والمثقفون من الكتابة، والفنانون من الإبداع، ورجال الدين من عظاتهم، لا يكفي إغلاق المجال العام، إنما حسابات مواقع التواصل الخاصة، وصفحاته الشخصية، مطالبة بدورها أن تخاف، "التغريد" جريمة، حال مساسه بالجيش والشرطة، التعرض للرموز التاريخية جريمة تستوجب السجن، من هم الرموز التاريخية؟ لا يهم، ما مفهوم التعرض؟ لا يهم، سوف تحدد الدولة بنفسها (بعد) القبض على الكيبورد وصاحبه، من ينطبق عليه هذه التوصيفات، أصبح مجرد النقر، ولو بالخطأ، على سطح المكتب، جريمة يعاقب عليها ما يسمى بالقانون ..

ماكينة الأخبار التي تحمل الخوف عبر الجرائد، والأجهزة اللوحية، وأثير الإذاعات والشاشات، لا تتوقف، ولا تتعمد إخفاء شيء، أو تخفيفه، بل على العكس، فهي "تكرس" لسلطة الخبر الذي يلقي في قلوب متابعيه الرعب، فيتحول إلى "شر يومي" يتعامل معه الناس ابتداء بالرفض، المعارضة، التأفف، التبرم، الاعتياد، التبلد، التماهي، ثم الدفاع عن منطق الشر نفسه والاحتفاء بالجاني ولوم الضحية ..!

يعود باومان ليخبرنا أن أجهزة الإعلام حين تكرر يوميا عرض مشاهد القتل والذبح والحرق والاغتصاب والاعتقالات والمحاكمات الظالمة، والاختفاء القسري والقتل خارج القانون، فهي - في الحقيقة - تُسكن الشر في الحدث اليومي، فيتحول إلى روتين، هنا يبرز دور شاشات يبدو لك أنها تنقل إليك الحقيقة، فيما هي تستهدف خصائك الشعوري، لتنتقل من مرحلة "المقاومة" إلى مرحلة "التطبيع" و"السلام الدافئ" مع الشر!

هنا، يمكننا أن نفهم ما الذي يحدث، ولماذا يحدث.. لقد تجاوز المصريون في السنوات القليلة الماضية مذابح بشرية قتل فيها العزل وأحرقت جثثهم، وجرى التنكيل بذويهم، وسجن من تبقى منهم، بغير جريرة، وساهم في تجاوزهم إياها إعلام الضحية نفسه، بكثرة الضغط، دون ميزان، والشكاية المجانية، دون وعي، والإملال من صور الأشلاء والجثث، حتى صار الدم "فرجة" يومية، فلا غرابة أن يتعاملوا اليوم مع أخبار قتل الآباء لأبنائهم، وفرمهم، وتقطيعهم، وأن يكون بعضهم جزءاً منها، فنحن في مصر، عادي!