استهداف القطاع العام اللبناني

مهند الحاج علي
الجمعة   2018/08/17

على هامش النقاش السياسي الدائر في البلاد، هناك واقع اقتصادي متردٍ الى درجة بات إهمال المعنيين به سوريالياً وعصياً على الفهم. الأرقام معروفة، من حجم الدين العام (80 ملياراً) إلى نسبته المرتفعة من الناتج المحلي، ونسبة النمو الاقتصادي الضعيفة من دون أي بوادر تحسن. في مقابلها، يزداد الوضع الأمني والسياسي ترهلاً، اذ صار بإمكان سجال إعلامي تافه أن يُغلق شوارع العاصمة بإحتجاجات مفتعلة.

الأوساط والمصادر الدبلوماسية باتت تُلمح إلى أن هناك ثابتاً في السياسة اللبنانية قد يستحيل متغيراً لو تواصل الاهتراء خلال الفترة المقبلة. ذاك أن هناك فئة مُحددة ستنال القسط الأكبر من أي انهيار يلوح في الأفق، وهي تحتل موقعاً مهماً في السياسة اللبنانية.

فلنأخذ المثال اليوناني معياراً رغم الاختلافات، وعلى رأسها عضوية اليونان في الاتحاد الأوروبي ومجموعة اليورو. لو افترضنا أن المجتمع الدولي سيهرع لإنقاذنا، وهذا احتمال يزداد ضعفاً نتيجة الضغوط على اللاجئين لعودتهم السريعة الى سوريا، فإن هناك حزمة مطالب وإجراءات مالية ستطلبها المؤسسات الدولية. ستستهدف هذه الإجراءات امتيازات شريحة من اللبنانيين، من موظفي القطاع العام، يركن إليها الزعماء السياسيون مقابل عطاءات وامتيازات لن تكون ممكنة لو استمر الوضع الحالي. والحديث يدور هنا عن الفئة الموالية والصامتة في القطاع العام المتضخم، وهي حيوية في شبكات الزعماء الطائفيين في لبنان.

لكن لماذا سيُستهدفوا؟

منذ أكثر من سنة، بات الحديث عن الإصلاح ملازماً للسياسة. كما أن القوى الدولية المانحة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية، لا تتحدث سوى عن الإصلاح بشقين: أولاً انفاق الدولة اللبنانية على القطاع العام، وثانياً سياسات الدعم في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والخبز وغير ذلك.

في البند الأول، المطلوب سياستان: الخصخصة وتقليص القطاع العام وامتيازاته. في المثال اليوناني، الحكومات المتعاقبة منذ عام 2008، استسلمت الى الخصخصة، وشرعت ببيع المطارات والمرافئ وشركات الخدمات العامة مثل الكهرباء (حتى الصرف الصحي). بكلام آخر، باتت اليونان مضطرة إلى بيع أعضائها لتتمكن من تسديد الديون المتراكمة عليها.

والواقع أن للخصخصة وجهين هنا. قد تتفوق على الدولة في فاعليتها بإيصال الخدمات وفي نوعيتها، وتُوقف الهدر الحاصل في قطاعات حيوية. لكنها في المقابل تضمن ارتفاعاً متواصلاً في سعر الفاتورة الخدماتية المترتبة على المواطن. تخيلوا وقع الخصخصة لو أنها ترافقت مع إجراءات مؤجلة لكنها شبه حتمية مثل رفع ضريبتي الدخل والقيمة المضافة.

وفي المثال اليوناني أيضاً، خُفضت امتيازات ورواتب القطاع العام بشكل تدريجي، وقُلّص حجمه إلى حد كبير. خلّفت هذه الإجراءات موجات احتجاج لا تزال متواصلة هذه الأيام.

هل بإمكانكم تخيّل بقاء الامتيازات الحالية لبعض القطاع العام، من سيارات وسائقين وقسائم الوقود وغيرها، لو صرنا تحت مقصلة الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية؟

وماذا لو ارتفعت الفاتورتان الخدماتية والغذائية، بالتزامن مع انخفاض الرواتب والامتيازات الحكومية؟ حينها سيكون وقع الأزمة مضاعفاً على هذه الفئة، وسيتحول الى اهتراء متواصل في نفوذ هذه الشبكات وقدرتها على ضبط الوضع.

هذا الركن الأساسي في النظام الريعي سيتلقى ضربة، ويفتح مجالاً لصعود قيادات وقوى جديدة من قلب هذه الشبكات، وليس من خارجها، وربما بعض الفوضى أيضاً.