الهجرة: البحث عن مبرر للسياسة

شادي لويس
الثلاثاء   2018/07/03
لعقدين على الأقل، كان الإرهاب ومكافحته على قائمة أجندة السياسة على المستويات المحلية، وبنداً رئيسياً في رسم العلاقات الدولية. كان يمكن تعيين موقع نظام أو دولة، بناء على توصيف موقعها من الإرهاب. فهناك دول حليفة في الحرب على الإرهاب، ودول أخرى تدعمه. ولم يكن من الصعب إلصاق أي من تلك الصفات بأي دولة، أو منظمة، أو تدويرها، وكذا تتبادل الدول مواقعها من تلك المعادلة، حين يبدو ذلك ضرورياً. وكان يمكن أيضاً تبرير الكثير من الأشياء باسم الحرب على الإرهاب. عالمياً، بشن الحروب واحتلال الدول. ومحلياً، بفرض قيود على الحريات العامة، ومنح سلطات إضافية لأجهزة الأمن، وصولاً إلى تقنين استخدام التعذيب وعمليات الخطف، والاحتجاز لسنوات من دون محاكمة. وكانت السياسات الحزبية في الغرب تدور، في جزء كبير منها، حول الموقف من هذا كله، الحروب غير القانونية، وغوانتانامو، والتوقيف الاحترازي. وبما إن الإسلام كان مفهوم لصيقاً بالإرهاب، فالإسلاموفوبيا، واندماج الجاليات الإسلامية، والحجاب على الشاطئ، وتراخيص بناء المآذن، والنقاب في الأماكن العامة كانت محور الجدل العام. وفي منطقتنا، فإن عنوان مكافحة الإرهاب كان ومازال كافياً لتبرير أي شيء، من قمع المعارضة، إلى شن حروب إبادة داخلية.

كان تنظيم "داعش" أسوأ الكوابيس السياسية للإرهاب، وأفضل تحقق لنبوءاتها. ويوماً بعد آخر، كانت "الدولة الإسلامية" تضرب بعملياتها عاصمة أوروبية وراء الأخرى. لكن، كان لكل هذا أن ينتهي فجأة. فمن يتكلم عن "داعش" اليوم؟! وكيف لكل تلك الأدبيات الأكاديمية المتراكمة، والهوس الإعلامي والجماهيري والتنابذات الحزبية حول الإرهاب والإسلام، التي بنيت في عقود، أن تتبخر هكذا في بضعة شهور؟ وأين ذهبت كل تلك المقالات اليومية، بكل اللغات، التي حملت كلمة الإرهاب في عنوانها؟

تأتي الهجرة اليوم لتأخذ مكان الإرهاب، في الخطاب الغربي. في واشنطن، يتركز الجدل السياسي حول سؤال الأطفال، هل نضعهم في أقفاص وحدهم، أم مع أُسرهم؟ تحكم أعلى محكمة أميركية بتأييد قرار منع السفر الذي أقره ترامب. خليط من إسلاموفوبيا، وكراهية عامة للأجانب، ويأخذ اللاتينيون مكان المسلمين، أو ينضمون إليهم، ويصبح السور مع المكسيك هو موضوع الجدل، لا إجراءات الأمن في المطارات. في أوروبا، تهبط مستويات الهجرة "غير الشرعية" بنسبة 95% مقارنة بالعام 2015، ومع هذا يصعد الموضوع ليصبح البند الأول في السياسات المحلية، ولعلاقات دول الاتحاد الأوروبي. في إيطاليا، يصل حزب رابطة الشمال للائتلاف الحاكم، ويستبدل مطلب الاستقلال عن الجنوب، بمعاداة الأجانب والمهاجرين. ترفض الموانئ الإيطالية، سفنَ الإنقاذ المُحمّلة بالمهاجرين. وفي ألمانيا، تعصف الأزمات بالتحالف الحاكم، على خطوط مسائل الهجرة واللجوء. وتتركز الأخبار على لقاء الزعماء الأوروبيين الأخير، والانفراجة التي شهدها في نهايته. اتفق الجميع على تشديد إجراءات الأمن، والحركة البينية، وتمت ترضية الإيطاليين والألمان معاً. لم يتضمن الاتفاق أي جديد، في الحقيقة، ولا خطط تفصيلية، لكن الجميع عادوا إلى عواصمهم معلنين انتصاراً كبيراً. بل حتى في إسرائيل، لم يعد سؤال الفلسطينيين مزعجاً لأحد، يبدو الأمر وقد حسم في الحقيقة. لكن جدلاً مستعراً، واستجوابات في الكنيست وأزمات سياسية، ومظاهرات ومظاهرات مضادة، تدور حول المهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة.

صحيح، لطالما كانت الهجرة موضوعاً مؤرقاً في أجندة السياسات الغربية، لعقود. لكنها لم تكن الهوس على جانبي المحيط، كما هي اليوم. وصحيح أيضاً أن دعوات وزير الداخلية الإيطالي بإحصاء الغجر، وترحيل بعضهم، وانتزاع الأطفال من بعضهم الآخر، وسياسات التفريق الأسري في الولايات المتحدة، تستدعي كوابيس الهولوكوست وتاريخ الفاشية. إلا أن الأمر ليس مجرد أشباح للماضي تطل كل حين وآخر. فعملية تحول الهجرة إلى صنم معبود في السياسة الغربية، تعوض تراجع مسألة الإرهاب، بعد استهلاكها إلى مداها الأقصى. تستبدل الإسلاموفوبيا، بالكراهية والخوف من المهاجرين والغرباء أينما كانوا، أفارقة ومكسيكيين وغجر وغيرهم. فالأزمة الاقتصادية، التي ضربت العالم قبل أعوام، ومازالت آثارها باقية، والخواء الإيديولوجي المهيمن ثقافياً، مع تداعي كل النظريات الكبرى، لم تستدعِ فقط الحاجة إلى كبش فداء، أو تشتيتاً عن القضايا الحقيقية، بل كشفت الحاجة الملحة إلى البحث عن موضوع للسياسة. فالعالم الذي ما زال يبحث عن عدو له، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، يحتاج خطراً ليطارده، وخصماً ليتعامل معه. وبعدما أصبح النموذج الليبرالي، بدرجاته في الاقتصاد والسياسات الاجتماعية، متوجاً بلا منافسة تذكر في اليمين واليسار الغربي، لم يبقَّ للسياسة سوى الخوف من الغرباء، والفقراء منهم على وجه الخصوص، والتنافس على طرق للخلاص منهم.