ملامح ثورة في إيران

وجيه قانصو
السبت   2018/06/30

حين يعدد قادة النظام الإيراني منجزات نظامهم، تجدهم يحصون العواصم التي اعتقدوا أنهم سيطروا على قرارها، معتبرين أن ذلك شاهد على نجاح ثورتهم وعلامة على تصديرها إلى محيطهم الإقليمي.  بالمقابل تجدهم يتجنبون الاجابة عن السؤال المحوري بعد مرور أربعين عاماً على نجاج الثورة: ماذا قدمت هذه الثورة للشعب الإيراني؟ وما الجديد في نمط حياة الإيرانيين؟

لا تكفي هنا المقارنة مع حكم الشاه البائد ليستمد النظام الحالي شرعيته ويضمن استمراريته. فهنالك فارق كبير بين مسوغات الثورة لتغيير واقع سياسي انسدت جميع آفاقه مثل نظام الشاه،  وبين قدرة القوة الجديدة على خلق واقع بديل يعيد للحياة السياسية حيويتها وتعدديتها، وللمجتمع إنتاجيته ورخاءه، وللفرد حريته وطاقته الإبداعية. أي إن المدار الأول والأخير في نجاح الثورة هو في نجاحها الداخلي وفي كون النظام الجديد مرآة لميول وتطلعات المجتمع بكافة أطيافه، لا التورط بمواجهات دولية فاقدة لأي جدوى سياسية واقتصادية، أو التلهي باستعراض المنجزات الخارجية وعدّ العواصم التي باتت تحت سيطرتها.  

  ثلاثة أمور جوهرية في بنية النظام الإيراني تجعل استمراريته مهددة. هو تهديد قد يغذيه الحصار أو التآمر الخارجي لكن منبعه التناقضات الكبرى التي يحملها هذا النظام منذ لحظة نشوئه:  

أولها فكرة ولاية الفقيه، التي مهما كانت المُلطِّفات الفكرية والفقهية التي قيلت حولها أو الكوابح القانونية التي أضيفت إليها في الدستور الإيراني، فإن أساس منطق ولاية الفقيه يقيم فصلاً حاداً بين السلطة العليا التي تستمد مشروعيتها من سلطة الإمام المعصوم المطلقة (الممنوحة له من الله) من جهة، وبين المجتمع الذي لم يعد صوته الانتخابي سوى وسيلة تدجين ومراقبة وتحكم وتلاعب من قبل أجهزة النظام التابعة للولي الفقيه من جهة أخرى.  هو فصل جعل الهوة بين النظام القائم والمجتمع الإيراني تتسع، لتتحول السلطة القائمة إلى أجهزة مستقلة ومنفصلة عن المجتمع، بل هي في أكثر الحالات موجهة ضده ليضمن النظام بقاءه مهما كانت تحولات وتغيرات المجتمع.

ثانيها: إلغاء التعددية السياسية، وإحالة الأحزاب والقوى التي شاركت في الثورة على الشاه قوى محظورة وخارجة على القانون. ليتخذ النشاط السياسي في إيران لوناً أيديولجيا واحداً وتكويناً حزبياً آحادياً قوامه الولاء الحصري والمتشدد للنظام القائم.  هو أمر تسبب بأقصاء شبه كامل للمجتمع عن الحياة العامة، وحول التعدد السياسي إلى ساحة تنافس بين أجنحة حزب النظام نفسه على السلطة، وليس وسيلة شراكة فعلية في صناعة القرار السياسي، أو مجال تعبير واسع ومفتوح لميول المجتمع وتفضيلاته المتنوعة.

ثالثها: عدم اعتناء النظام بالعنصر الإنمائي والاقتصادي، وتحميل إيران أعباءً وحروباً وصراعات خارجية تفوق قدرة الإقتصاد الإيراني على تحملها وتضع البنية الإنتاجية في حالة ترهل دائمة والقوى الاقتصادية في وضع حرج ومقلق. وما زاد الأمور سوءاً هو هيمنة أجهزة النظام الأمنية (الحرس الثوري) على الساحة الاقتصادية، ما ضيق هامش المبادرة الفردية والاجتماعية، ووضع الحياة الاقتصادية تحت هيمنة شبكة عميقة من التقديرات الأيديولوجية والتحكمات الاعتباطية للاقتصاد الإيراني.

حين انطلقت الثورة الإيرانية، وقف البازار الإيراني بكامله وراءها، لما فيها من تمرد على عبثية تبديد الشاه للثروة الوطنية وما تحمله من وعود رخاء وازدهار وحياة كريمة، فكان هذا الدعم أحد أهم أسباب شعبية هذه الثورة وانتصارها. كما إن استمرار التحالف بين النظام والقوى الاقتصادية غير الرسمية ضمِن للنظام رضى وقبولاً عامين رغم  ممارسات القمع القاسية وكارثة حرب الخليج الأولى.

انهيار العملة الإيرانية بطريقة مأساوية خلال عام، ووصول قيمة الدولار الأمريكي إلى مشارف المئة ألف ريال إيراني، وإقدام البازار الإيراني على الإضراب شبه المفتوح، وتوجيه الانتقاد الصريح لا إلى العوامل الخارجية أو إلى سوء إدارة الحكومة الحالية أو حتى اعتبار ذلك مشكلة فساد داخلي، بل التصويب الجريء باتجاه خيارات النظام الاستراتيجية وبنية توزيع وإدارة الموارد فيه، كل ذلك يدل على حصول شرخ عميق بين قوى المجتمع الإنتاجية والنظام القائم، وخسارة هذا النظام آخر معاقل أمانه ومسوغات بقاءه. بل يدل على هوة سحيقة بين النظام والمجتمع الإيراني نفسه، بعدما ضيع هذا النظام في مناسبات عدة فرصة ردم هذه الهوة أو إجراء مصالحة أو التعامل بشفافية مع رسائل احتجاج المجتمع السلمية، واعتماده منطق التخوين وطرق القمع والقهر وسيلة لإنهائها.

  يهرب النظام من استحقاقات الداخل والتغطية على إخفاقاته فيه بالمفاخرة بمنجزات انتشاره الخارجي،  في حين يصر المجتمع الإيراني على أولوية الداخل ومعياريته الحصرية لأي نجاح، ويؤكد على عنصري الرفاه والحرية أساساً لأي انتظام داخلي.  إنها مفارقة خطرة بين طرفين (النظام والمجتمع) تضع النظام الإيراني أمام انسدادات داخلية محكمة تشبه انسدادات نظام الشاه البائد. فهل نحن أمام ملامح ثورة جديدة في إيران، تكون تظاهرات البازار الأخيرة أولى طلائعها؟