ثورة سوريا بوصفها تحدياً أخلاقياً

وجيه قانصو
الأحد   2018/06/03

عندما نزل السوريون إلى الشارع يرددون "حرية حرية" و "سلمية سلمية" ، لم  يكن وراء بُحةِ حناجرهم رؤية سياسية أو مسعى لتغيير نظام أو حتى مشروع ثورة، بل تمرد على صمت الوجع القاتل، والخوف الذي يشل الروح ، والرعب الذي يقتل فرح الحياة ويطارد الناس حتى في تفكيرهم وأحلامهم.  كانت صرخات عفوية لأفراد تلقوا رصاص القتل بصدورهم وهم ينتشون بحريتهم لأمتار قليلة ويطلقون إنسانيتهم المحتبسة للحظات معدودة.

إنه وجع إنساني عابر لأية خصوصية، وقضية أخلاقية خالصة وضعت أخلاقيات ونضاليات الجميع على المحك.  بين أن تستجيب لأمل شعب قرر كسر شبكة المصالح الداخلية الآسرة وحسابات الربح والخسارة والخروج على خطاب التدجين ومُسكنات العبودية الطوعية.  وبين كبت السؤال الأخلاقي الحرج الذي يلاحق واقعنا العربي لقرون، وقمع إنسانيتنا النازفة لأجيال متتالية بمسوغات نضالية مزيفة وأيديولوجيات ركيكة وخطاب تعبئة يستثير غرائز الخوف والعدوانية في آن.

لم تكن القضية قضية مس بأمن الدولة، أو غض الطرف عن  تحرير الأرض المحتلة من قبل إسرائيل، أو حتى تناسي قضية فلسطين، بل قضية كرامة إنسانية مهانة، وحرية مختنقة، وحياة مقلصة إلى أدنى أشكال البقاء.  أي قضية وجود قبل أن تكون قضية مبدأ، وقضية حياة قبل أن تكون قضية نضال ومعتقد وموقف.

صرخة السوري الأولى، كانت صدى لشيء مكبوت داخل كل عربي، وفضح لكل أشكال الإنتظام السياسي العربي الذي يقوم على الغلبة والقهر ويستمر بعدة الرعب وتقنياته الموروثة والمطورة.  فعدو السلطة القائمة ليسوا أفراداً بعينهم بل هو المجتمع كله، وعلى ترهيب الدولة أن لا يستثني أحدا من أفراد هذا المجتمع، وعلى العقاب أن يكون جماعياً لا يميز بين مذنب وبريء.  فالذنب ذنب النوايا الخفية والمبيتة لا مخالفة القانون، والخطيئة خطيئة الانقطاع عن تمجيد القائد والشك في قدراته الاستثنائية والتوقف عن تبجيله وحتى تأليهه.

تختزل قضية سوريا ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. هي ليست قضية من ينتصر، لأنها ليست مسألة بقاء شخص ورحيله، أو  استمرار نظام وإنهاؤه، أو ترجيح مصلحة دولة أو محور على آخر، بل قضية أية حياة نحيا، وأي وجود ننوجد فيه وأي عقل نفكر فيه وأية قيمة أخلاقية ومبدأ إنساني نكون جديين في الإلتزام بهما والتقيد بمستلزماتهما. هي قضية واقع يصادر أي فعل خلاق، وقضية  انتهاكات متراكمة لا يقابلها أي عقاب أو مسائلة، قضية فرد اختزل تطلعات المجتمع وميولهم وآمالهم في شخصه، قضية حرية مطلقة لشخص حاكم تفضَّل على رعاياه بحق البقاء مقابل صمتهم الأبدي.

كانت سوريا محطة اختبار لكل المشاريع الواعدة والأيديولوجيات الحالمة والدول الطامحة.  حيث أخفق الجميع في التقاط مغزاها وتحسس ندائها الجريح. فحوَّلها البعض إلى مشكلة مذهب ضد مذهب آخر،  وفرصة لاستعادة مذهب معين زمام المبادرة ضد مذهب حاكم. وصوَّرها البعض أو الأكثر على أنها مؤامرة خبيثة استجاب لها متظاهرون سذج ضد محور ممانعة ومشروع مواجهة كونية ضد الصهيونية والاستكبار العالميين، هو تصوير يسوغ الإستبداد ويعلي من شأنه ويسبغ عليه قداسة وهمية ونبل كاذب على حساب شعب بأكمله ملَّ القمع والكبت لعقود.  ثم اتسعت دائرة المواجهات بين الدول الإقليمية والدولية فوق الأرض السورية، ليتخذ الصراع وجهة أخرى تتصل بتوازن القوى وحجم نفوذها وترتيبات السلطة القادمة، بات معها الإنسان السوري بوجعه ومأساته تفصيلاً ثانوياً وقيمة عرضية.

اعتبر المفكر عبد الله العروي إثر هزيمة 1967، في كتابه "الأيديولوجية العربية المعاصرة"، أن التفوق الإسرائيلي لا يكمن في نوعية أو كمية العتاد العسكري الذي يحوزه، بل في عقلانية تنظيمه الإجتماعي وحرية الفرد وتحرره داخل مجاله السياسي، مقابل لاعقلانية مستبدة وفرد مكبل بالإغلال  في مجالنا العربي. وبدلاً من التعلم من النكسات والهزائم المتتابعة، وإجراء فحص دقيق ليقينياتنا ومطلقاتنا، إذا بالخطاب السياسي الرسمي يتحجج بالهزيمة ومكائد العدو وخططه كي يدعم استبداده ويمده بحجة مواجهة مفتوحة مع العدو الاسرائيلي، ليصبغ على استبداده صدقية مطلقة.

من هنا، لا شيء يفاضل كرامة الإنسان السوري حتى لو كان أقدس المقدسات، ولا قضية مواجهة ضد أي  عدو تسوغ مصادرة أو إرجاء حريته ومبادرته الخلاقة، ولا أرض تعلو قيمتها على قيمة حياة فرد سوري واحد.  هذا ليس وعظاً بل أصل بديهي لأي بناء وانتظام وتضامن ومشروعية أمر أو سلطة وحتى استراتيجية مواجهة. وهو أصل تحطمت عنده أكثر إن لم نقل كل إدعاءات الخلاص السياسي والفكري وحتى الديني في مجالنا العربي.  هذه هي قضية سوريا الجوهرية، التي لن تطمسها سيناريوهات المؤامرة والتآمر، ولن تتفوق عليها وعود الغيب الواهية وصياغات الإيديولوجيات المضللة.

يهزمنا الإنسان السوري كل يوم، حين يخترق صقيعُ الليل جسده الضعيف داخل حجرات إيواء تأنف حيواناتنا الأليفة عن السكن فيها، ويفضح الطفل السوري كل ما نؤمن به ونقوم عليه، حين نمر به عند تقاطع الشوارع في بيروت وربما عواصم عربية أخرى، لا مبالين بإصراره وعزيمته اللافتة على الحياة وغير عابئين بقدرته على البقاء بصبر أسطوري.