لن ينجو أحد

عمر قدور
الثلاثاء   2018/03/06

منذ أيام يواصل مسؤولون أمميون إتحافنا بتوقعهم مصيراً للغوطة يشبه مصير الأحياء الشرقية من مدينة حلب قبل نحو 15 شهراً، والواقع أن ما يتكرر ليس سيناريو حلب وحده، وإنما أيضاً التصريحات الأممية المرافقة له والتي تعلن بصريح العبارة تخلي المجتمع الدولي عن الحد الأدنى من واجباته الإنسانية. بعبارة أخرى؛ من ستُكتب له النجاة من الهجوم الوحشي على الغوطة سيكون محظوظاً فقط لا غير، بعد أن تكالبت كل الظروف لتضعه في مصاف القتلى.

في الأصل كان من السذاجة الاعتقاد أن تحالف موسكو وطهران وتابعهما المحلي سيسمح ببقاء أي تهديد عسكري محتمل على مشارف العاصمة، ولم يكن منتظراً سوى ما أكّده أصحاب هذا التحالف من نيتهم الاستمرار في الخيار العسكري حتى استعادة السيطرة على كافة المناطق غير المحمية بالمظلة الأمريكية. رمزية الغوطة في هذا الميزان أنها ستتيح لتنظيم الأسد لأول مرة منذ ست سنوات الإعلان عن السيطرة على دمشق وغوطتها معاً، والاحتفال لا بخلوّ العاصمة ومحيطها من الفصائل المسلحة فحسب وإنما أيضاً من أي مظهر من مظاهر المعارضة التي لا يستطيع تقبّل وجودها. بل يمكن القول بأن تنظيم الأسد سيكون على موعد للاحتفال بنجاته نهائياً، مع يقين لدى رؤوس الإجرام فيه أن المجتمع الدولي الذي لم يلجم وحشيتهم الآن ومن قبل لن يفعلها ويعمل على محاكمتهم وفضح مذبحة القرن، لأن في ذلك فضحاً لتقاعس القوى الدولية المواكبة للإبادة عن كثب.

نستطيع أن نبخس الأسد انتصاره، مثلاً بالقول أنه صار مجرد عميل محلي يتفنن حلفاؤه في إهانته قبل خصومه. من السهل، في الميزان المنطقي لحساب الأرباح والخسائر، تعداد الفرص التي أهدرها تنظيم الأسد كي يتفادى هذا المصير، لكنه فضّل عليها تدمير البلد وتسليمه لقوى الاحتلال على مشاركة سوريين آخرين. وسيكون منطقياً أيضاً القول بأن مكانة الأسد الحالية لدى حلفائه لن تنجيه من مصير تجنَّبه بمعونتهم، وهذه المرة لحظةَ يقررون أنه بات عبئاً عليهم، لا لقدرته على عرقلة مخططاتهم وإنما لأن مصالحهم المستقبلية ستكون أفضل بالتخلص منه.

إلا أن ذلك كله ينبغي ألا يحجب انتصار الأسد وفق منطقه، فهو حتى الآن حقق غايته وبقي على كرسي الحكم، وهو إلى الآن لم ينفق من الأموال التي نهبها هو وأسرته خلال ما يقرب خمسة عقود. أكثر من ذلك؛ لقد كانت المساعدات الدولية القادمة لإغاثة المنكوبين فرصة أخرى لمزيد من الفساد والنهب، وكانت خطوط الاعتماد المالي المفتوحة من الحليف الإيراني فرصة مماثلة، والأخيرة هي من ضمن 22 مليار دولار صرح مسؤول إيراني بارز أن بلاده أنفقتها في سوريا، وتستعد لاستردادها أضعافاً في المستقبل. ضمن منطق النكاية والكيدية، الذي لا يتوانى بشار عن ممارسته في كل إطلالة إعلامية، لقد فعل كل ما سولت له نفسه من أعمال إبادة ونهب وترهيب على المكشوف تماماً، وليس هناك في العالم أجمع من يعلن أدنى عزم على إيقافه أو محاكمته.

أيضاً لا يقلل من هذا الانتصار ما يُشاع اليوم عن زج ثلاثة أرباع قوات الأسد في الهجوم على الغوطة، فهذه الدلالة على فقدان القوة البشرية لدى موالاته هي دلالة أيضاً على انتصاره الساحق. وأن يستطيع السير بموالاته نحو المذبحة فهذا بلا شك يُحتسب لتاريخ من الدأب الأسدي على صناعة الخوف من السوري الآخر بما لا يقل عن الخوف من مخابرات الأسد ذاتها، ويلزم هنا تجاهل كل ما قيل عن فشل الثورة في استمالة جمهور الموالاة، لأن الأخير كان مجهّزاً للمطالبة العلنية بالإبادة قبل الشروع بها على نطاق واسع، وكان متلهفاً لسحق السوريين الآخرين وإعلان النصر بما لا يقلّ عن تلهف رؤوس الإجرام. وأن يتحمل هذا الجمهور مقتل نسبة ضخمة من شبابه، وإصابة نسبة أكبر منهم بإعاقات دائمة، وأن يتحمل ذلك التدهور الفظيع في وضعه المعاشي، فتلك مؤشرات على انتصار الأسد على موالاته، مهما بدت أيضاً منافية للعقل والمنطق، ولا يمكن وضعها في سلة تفضيل السيء على الأسوأ كما تبتغي دعاية الأسد، أو دعاية هواة توبيخ المعارضة وكأنها امتلكت في أية لحظة مقاليد البلد.

حصة المعارضة من الهزيمة لن نراها فقط في الميدان، حيث كان من المستحيل مواجهة القوة العظمى الروسية وهي تتبع سياسة الأرض المحروقة أينما توجهت. وإذا أخذنا المثال العسكري مقياساً فقبل التدخل الروسي كانت الفصائل المسلحة في حال من التشرذم والانقسام والاقتتال الداخلي ما ينبئ عن حالها، ولم تكن الانقسامات على أسس أيديولوجية أو سياسية بقدر ما كانت لأسباب مناطقية أحياناً، ولاعتبارات تتعلق بإمارات الحرب ومكاسبها الصغيرة أحياناً أخرى، قبل أن تغزوها التنظيمات الجهادية مدعومة بتسهيلات خارجية وبانسجام داخلي يعزز من صلابتها. في الواقع لم يتوحد السوريون في معسكر الثورة إطلاقاً حول ما يُفترض أنه هدفهم المشترك، ولم يخوضوا أية معركة عسكرية أو سياسية ضمن إطار يحظى بشرعية تمثيلية أو بقيادة تحظى بقبول غالبيتهم. ذلك يعني أيضاً أن ما فعله تنظيم الأسد خلال تلك العقود قد أثمر في امتناع السوريين عن العمل الجماعي والتشاركي، وفي اقتسامهم معاً عوامل الشك والريبة بالآخر، ويمكن القول إن سبع سنوات من انطلاق الثورة لم تجعل الوضع يتحسن على هذا الصعيد، بل كان لطول هذه المدة أثر سلبي في ارتكاس واسع النطاق عن الإيجابيات التي كانت برزت في البداية.

بقليل من الواقعية يجوز الزعم بأن آثار انتصار الأسد ستدوم لعقود أخرى قادمة، بصرف النظر عن إبقائه في السلطة أو تنحيته، وإن كان الخيار الأول بالطبع أكثر كارثية. وإذا تجرأ الأسد وحلفاؤه على إعلان النصر انطلاقاً من تأمين العاصمة فستكون فرصة ليصحو موالوه على الثمن المنتظر منهم، حيث سيستمر الزج بما تبقى من أبنائهم في معارك لاحقة سقف الانتصار فيها لن يكون استعادة سوريا بأكملها، والأهم أن وعيد الحلفاء باسترداد ديونهم سيحين موعده، وتنفيذه سيعني انهياراً غير مسبوق سيجعل الحياة مطابقة للعبودية.

لقد اختبر السوريون من قبل آثار انتصار الأب على الإخوان المسلمين، وكانت نتيجتها عقدين من تغول أجهزة المخابرات والشبيحة فضلاً عن انهيار وتضخم اقتصاديين شديدين، مع التنويه بأن تلك المواجهة لا تُقارن أبداً بالصراع الحالي. اليوم، بينما يشرع الأسد وحلفاؤه في إبادة الغوطة واقتحامها، لا مبالغة في القول أن أحداً لن ينجو، ولا يقل سوءاً عن ذلك أن من لم يتعلموا من الدروس السابقة لن يتعلموا من هذا الدرس.