جدل حول عفرين

عمر قدور
الثلاثاء   2018/02/20

يُفترض أن تكون طلائع ميليشيات الأسد قد دخلت منطقة عفرين يوم الاثنين، بعد الإعلان عن اتفاق مع الميليشيات الكردية لم تُعلن تفاصيله، أو ربما تُركت التفاصيل إلى حين معرفة قرارات القوى الدولية والإقليمية اللاعبة في سوريا. إلا أن هذه النتيجة لا تتفق بأية حال مع ما كانت تعلنه الميليشيات الكردية حتى أيام قليلة جداً من تصديها للهجوم التركي وعدم تقدّم الغزاة شبراً واحداً، ولا تتفق أيضاً مع الوعيد التركي بالسيطرة على عفرين ومن ثم التوجه إلى منبج لطرد الميليشيات الكردية منها أيضاً.

واقعياً كان يلزم أكثر من حسن الظن كي يتوقع المتابع نتيجة مختلفة عن استدعاء تنظيم الأسد إلى عفرين، وإذا أتت هذه الفرضية من كردي فسيُواجه بتهم من نوع التخوين والعمل على إضعاف روح المقاومة، أما إذا أتت من عربي فهو بلا شك أردوغاني أو داعشي. تحقق هذه الفرضية اليوم لا يمنع أولئك الذين مارسوا التخوين والتشهير من تبرير استدعاء ميليشيات الأسد بعدم القدرة على مواجهة الهجوم التركي، مع إعادة اكتشاف أن الجيش التركي هو ثاني أضخم جيش في الناتو، ولا يندر أن يكون بين هؤلاء من سخروا من مقاتلين سوريين آخرين بدعوى جبنهم وهزيمتهم أمام تنظيم الأسد بخلاف بسالة الميليشيات الكردية في التصدي للعدوان التركي.

في الجهة المقابلة سيغضّ مؤيدو الهجوم التركي من السوريين أبصارهم عن النتيجة المتوقعة، ولا يندر أن تُرى في هذا المقلب شماتة تكتفي بانكسار الميليشيات الكردية ولو كان الثمن لمصلحة الأسد. مشجعو أردوغان في هذه الجهة لن يتوقفوا حتى عند تصريح وزير خارجيته بقبول بلاده انتشار ميليشيات الأسد إذا كان على حساب الميليشيات الكردية، ولن يعني ذلك شيئاً للعروبيين منهم إذ تعلو "وحدة سوريا" من وجهة نظرهم على ذلك الشقاق الدموي بين السلطة والمعارضة.

أيضاً في جهة مؤيدي الهجوم التركي هناك كثرٌ يرون أن عفرين لم تخرج أصلاً عن سيطرة الأسد، بحكم ما هو معروف من حالات تنسيق بين ميليشيات الطرفين. ومنهم من لا يريد التمييز أصلاً بين علاقة التحالف المذكورة والتبعية المطلقة، ولا يريد قراءة الواقع السوري الذي بات مقطّع الأوصال، وتحكمه تحالفات لا ترقى لأن تكون استراتيجية، فالميليشيات الكردية في مدينة حلب وريفها على تحالف وثيق بميليشيات الأسد، بينما هي على تحالف مشابه مع القوات الأمريكية شرق نهر الفرات، سواء أكانت تهوى ذلك التحالف أم لا.

لا يخفى في الجدل العربي الكردي حول عفرين أنه جدل لا يتوخى أصلاً الوصول إلى مقاربات مشتركة، بل هو جدل كيدي؛ غايته المحددة سلفاً هي الوصول إلى درجة أعلى من الاحتقان والعداء بين الطرفين. الأصوات المعتدلة، أو تلك التي تحاول الاقتراب من الموضوعية، أصحابها ليسوا الأعلى صوتاً، وهم بمثابة ضيوف غير مرغوب بهم على الجانبين، وليس المقصود فقط نبذ الأصوات العربية من قبل العرب أو الكردية من قبل الأكراد، فالكردي المعتدل غير مرغوب به عربياً لأنه يقلل من صفاء صورة الكردي المتعصّب لدى العرب، وقبله العربي المعتدل قد يكون الأكثر تعرضاً للهجوم من قبل الأكراد لأنه أيضاً يدلل على وجود عربي خارج الصورة النمطية المصفّاة.

هدف الجدل في مثل هذه الحالة هو الوصول إلى أعلى درجة اصطفاف ضمن المجموعة ذاتها، وشتم المجموعة المقابلة باعتبارها مجموعة متجانسة تماماً هو من باب الإصرار على التجانس الداخلي بوصفه سنّة الجماعات كلها. من أجل الوصول إلى هذه النتيجة لا بد من مغريات، وشيطنة الآخر أولها من حيث اعتبار الذات نقيضاً له، فالآخر هو سيء جوهرياً بقدر ما نحن نقيضه، وكلما أمعنّا في شتيمته كلما كنا في الوقت نفسه نعلي من ذواتنا. الآخر هنا ليس ابن مصالحه، لأن المصالح متغيرة وليست جوهرية أو جينية، والمصالح تقتضي السياسة بينما التناقضات الجوهرية تقتضي قطيعة كلية مع السياسة كسبيل للتعاطي معه.

واحد من تعينات القطيعة التامة أن يفضّل معارضون سوريون عودة عفرين إلى سلطة الأسد على سلطة الميليشيات الكردية رغم قناعتهم بأن الأسد بمثابة الشيطان، وأن يرى أنصار الميليشيات في الشيطان الذي يعرفون "الأسد" خياراً أفضل من الشيطان المطلق الذي يتمثّل بالمعارضة. أن يستفيد الأسد في الحالتين ليس بالأمر المحتم فقط، بل ما هو أسوأ من هذه الخلاصة ألا يحس أحد الطرفين بالخسارة، ما دامت هذه الخسارة ليست ربحاً للطرف الآخر.

وللحق أي كلام معتدل في خضم هذا الجدل سيبدو نشازاً، وسيبدو منفصلاً عن الواقع حتى إذا بدا أكثر واقعية أو نفعية على المدى البعيد، إذا لم نقل أنه سيكون مثيراً للشفقة. أصحاب الاعتدال، فوق ندرتهم، لا يملكون أية قوة على الأرض، بينما يملك غيرهم كافة مفاتيح السلطة العسكرية والاقتصادية، والمعنوية كنتيجة منطقية لهما. الاعتراف بالأرجحية الواقعية لتلك القوى قد يكون مدخلاً أفضل لفهمها بدل التعالي عليها بقيم لا قوة لها في الواقع، وهذا قد يكون أفضل لجهة التنبؤ بمآلات يُؤسس لها اليوم، فضلاً عن التأسيس الذي لم يقصّر فيه حكم البعث وحكم عائلة الأسد.

إذا أتيح للطرفين الكردي والعربي الاحتراب، كما تهوى القوى المسيطرة والفاعلة لدى كل منهما، فمن المرجح أننا سنكون إزاء حرب ساحقة شديدة الوحشية، لا تُراعى فيها أدنى قيم الإنسانية من قبل الجانبين. لن يحدث ذلك بالطبع لأن الطرفين يحوزان وحشية في جيناتهما، ولكن لأنها لن تكون حرباً سياسية بقدر ما سيعتبرها كل طرف منهما حرب وجود. وطالما أن هناك مناطق عربية تحت احتلال الميليشيات الكردية، ومؤخراً قرى كردية في عفرين تحت الاحتلال التركي بمساندة فصائل عربية، لن تكون هناك فرصة لفضّ الاشتباك بين الطرفين. هذا يصلح الآن، وفي المستقبل أيضاً إذا أمكن استمرار الصراع، مع إيلاء أهمية خاصة لمناطق سيبقى متنازعاً عليها بسبب عدم وجود غالبية ساحقة لأي طرف فيها.

منع الاحتراب غير وارد إلا بقوة ثالثة تحجز بينهما، أو قادرة على ضبطهما، وهذه أيضاً قناعة يتمنى الأسد وسواه من قوى خارجية أن يصل عدد متزايد من السوريين إليها، لأنه تشرّع الاستبداد أو الاحتلال، أو الاثنين معاً على النحو الحاصل الآن. إلا أن الوصول إلى هذه القناعة أسهل من تجشّم عناء إقامة تحاجز ذاتي ولو كان مؤقتاً، يفكّر من خلاله كل طرف بمشاكله وخساراته بمعزل عن مساهمة الطرف الآخر فيها، هذا التحاجز يتطلب توقف الجدل الحالي من دون تكاذب أيضاً، ومن دون ادّعاء يخالف القطيعة القائمة، إنه يعني تحديداً تعزيز القطيعة، وهذا ما ليس وارداً ليس بحكم الاشتباك الواقعي وإنما لأن المعادلة في حالتنا هي: قطيعة نفسية أشدّ يُحتمل جداً أن تؤدي إلى حرب أقل.