دير المنيا: المادة الخام للموت

شادي لويس
الثلاثاء   2018/11/06
خلال قداس لراحة نفوس ضحايا الهجوم على حافلة زوار دير الأنبا صموئيل في المنيا (غيتي)
لم تكن حادثة الهجوم المسلح على الحافلة التي تقل زواراً لدير الأنبا صموئيل، في محافظة المنيا، الأولى من نوعها. ففي أيار/مايو من العام الماضي، تعرضت حافلات تقل زواراً للدير نفسه إلى هجوم، أسفر عن مقتل 28 من الأقباط. وكانت الصدمة التي خلّفها العدد الكبير من الضحايا، والصور المروعة المنقولة من موقع الهجوم، سبباً في تعهد السلطات بتمهيد الطريق إلى الدير وتأمينه ومد شبكة الاتصالات إليه. لكن، رغم الإعلان المتكرر عن تخصيص الحكومة التمويل اللازم لتمهيد الطريق، فإن ما حدث هو قيام الجهات الأمنية بإغلاق الطريق إلى الدير، ومنع الزوار من الوصول إليه. واستغاث رهبان الدير، عبر وسائل الإعلام، من التضييق الأمني على الطرق المؤدية إليه، والذي تضمن احتجاز شاحنات تحمل أغذية لقاطنيه، لفترات طويلة، حتى فسد بعضها.

ولم يكن مفاجئاً أن تتقاعس الدولة عن تنفيذ ما وعدت به. فتمهيد الطرق المؤدية إلى الدير الذي يقصده أقباط المنيا في الجنوب المصري، وهي المحافظة الأفقر في مصر، ليس على رأس أولوياتها. أما التأمين الأمني للحافلات، والذي تتمتع به الأفواج السياحية في كافة تحركاتها، وفي جنوب مصر تحديداً، فيظل مقتصراً على الأجانب. وفي ما يخص المصريين من الأقباط، فإن قرار الحظر كان الحل الأسهل لدى الدولة. فلا داعي للتأمين، طالما من الممكن منع المرور بالكامل. وهذا في ما يبدو، مبدأ راسخ لدي الجهات الأمنية المصرية، أي تغليب الحظر على غيره. فكما كانت الحركة من الوادي إلي سيناء، ممنوعة على عوام المصريين، باستثناء الطبقات القادرة، خلال فترة حكم مبارك، فإن ذلك الحظر غير المعلن تم تمديده ليشمل نطاقات أخرى، خصوصاً غربي البلاد، بعد تصاعد الهجمات الإرهابية خلال الأعوام القليلة الماضية.

لكن، ولأن عملية التقطيع الجغرافي والعزل الأمني تلك تفتقد في معظمها إلى المنطق، أو على الأقل لا تحاول مراعاة الحد الأدنى لاحتياجات السكان أو إيجاد مسارات بديلة لحركتهم، فإن الطبقات الأكثر تهميشاً وجدت نفسها مضطرة إلى التحايل على تلك الإجراءات الأمنية، رغم ما يتضمنه ذلك من مخاطرة. ولم يكن زوار الدير استثناء. فبعد شهور من الهجوم الأول، عاد الأقباط لزيارة الدير عبر "مدقات" غير ممهدة، وبعيدة من اللجان الأمنية التي انحصر دورها في منع مرورهم من الطريق الرئيسي لا أكثر. فخبرة طويلة للأقباط مع الهجمات وتعامل الدولة معها، تركت قناعة لديهم بأن الوجود الأمني يعني الكثير من التضييق عليهم، والقليل من التأمين لهم.

إلا أن عامل الاضطرار لم يكن متوفراً في حالة الدير، أي لم تكن هناك ضرورة مُلحّة تُرغم من جاءوا لزيارته على تعريض أنفسهم للخطر، والتحايل على المنع الأمني. وهذا بالطبع ما برر للبعض- ومن بينهم أقباط- لَومَ الضحايا، وتحميلهم مسؤوليه ما لحق بهم. إلا أن ما يغيب عن لائمي القتلى، هو أن الموت ليس خياراً أو مخاطرة غير مبررة بالنسبة للكثيرين من المصريين، وللأقباط تحديداً. بل هو واقع يومي، واحتمال روتيني قائم طوال الوقت. فالموت ليس بالضرورة في الطرق المغلقة بواسطة الأمن، والأديرة البعيدة في الصحاري، بل في كنائسهم وبيوتهم والشوارع والأحياء الأكثر ازدحاماً وفي كل مكان آخر. مرةً، على يد الإرهاب. ومرات، على يد الدولة، عمداً، أو بسبب تقصيرها. وفي أحيان كثيرة، على أيدي جيرانهم. يرى الكثير من الأقباط أنفسهم، خصوصاً الأفقر بينهم، كمادة خام للموت، بلا دولة تحميهم أو مجتمع يدافع عنهم.

في النهاية، لا يبدو الصادم في المذبحة الأخيرة هو تقصير الأمن، أو تجاهل الإعلام الذي جاءته تعليمات بعدم الشوشرة على "مؤتمر شباب العالم" في شرم الشيخ. فهذا كله كان، ولايزال، متوقعاً في مصر. بل الأكثر ترويعاً هو ما وصل بالكثير من الأقباط، وغيرهم من المصريين، إلى تلك اللامبالاة التي يشعرون بها تجاه الحياة، وحياتهم هم على الأخص.