النصر على ترامب..بالاعلام وحده

ساطع نور الدين
الأحد   2018/11/18

قد يبدو الخبر محلياً، بسيطاً، لكنه يندرج في سياق واحدة من أهم المعارك السياسية  التي يتابعها العالم كله بشغف، وأكثرها تشويقا وأثارة، تلك التي تدور بين الاعلام الاميركي وبين الرئيس دونالد ترامب، والتي تهز أركان أميركا وتضعها في حالة إستنفار دائم لمتابعة وقائع معركة طاحنة تستخدم فيها مختلف أنواع الاسلحة، بما فيها المحرمة أخلاقياً..وتبشر بنصر إعلامي جديد، يضاف الى سجل حافل بالانتصارات التي حققتها صحف ومحطات تلفزيونية أميركية على من يوصف عادة بأنه أقوى رجل في العالم، لأنه يقود أقوى جيش عبر التاريخ.

الخبر يقول أن الزميل جون أكوستا عاد الى مكان عمله في البيت الابيض، بعدما إنتصر له القضاء الاميركي على الرئيس ترامب، الذي تلاسن معه علناً الاسبوع الماضي ورفض الرد على أحد أسئلته(المحرجة طبعا)، فقرر معاقبته بسحب بطاقة إعتماده مراسلاً من قبل محطة "سي أن أن" لتغطية أخبار الرئاسة الاميركية ومؤتمراتها الصحافية.

بداهة القول أن أميركا دولة عظمى، دولة قانون ومؤسسات، تحترم الفصل بين السلطات الاربع، وتمتثل لنظام ديموقراطي راسخ، يحاول الرئيس الاميركي الحالي تهديده وتبديل قيمه وتعديل قواعد عمله، لا تقلل من شأن تلك المعركة الضارية التي قيل في مستهلها أنها ستكون مجرد لعبة ملاكمة  مسلية بين لاعبين من الوزن الثقيل سبق أن شهد الجمهور الاميركي مثلها الكثير، وإستمتع بسقوط أحد أبطالها بالضربة القاضية، في سبعينات القرن الماضي، لكنها تحولت مؤخراً الى عملية تكسير عظام وتحطيم رؤوس.. لن يخرج ترامب منها سليماً.

القاضي الاميركي الذي حكَم لمصلحة مراسل "سي أن أن"، قام بواجبه في حماية القانون وتنفيذه. لم يتدخل في الصراع ولم يعبر عن إنحياز لأي من طرفي الاستقطاب الحاد الذي تشهده أميركا هذه الايام بين رئيس يود تقويض السلطة الرابعة، وإستبدالها بما بات يعرف ب"السلطة الخامسة" التي تمثلها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يستخدمها ترامب وينشر عبرها تغريداته اليومية المتلاحقة.. وبين إعلام تقليدي يدافع عن وجوده وعن حقه الدستوري في أن يكون "سلطة"، يؤدي مهمة طبيعية جداً في المجتمع الاميركي، تحفظ له شعبيته ( بل وتزيدها أيضا، حسب إحصاءات أخيرة أصدرتها كبرى الصحف ومحطات التلفزيون الاميركية).

هذا الصراع الذي إنفجر منذ اليوم الاول لانتخاب ترامب، تحول بشكل تدريجي الى واحد من أهم مؤشرات السياسة في أميركا، بل وفي العالم أجمع. الاتهامات التي يتراشق بها الرئيس وفريقه، مع الصحافيين لم يسبق لها مثيل.هي تكاد تصنف كتهديدات متبادلة بالقتل، او بالتحريض على العنف، الذي  يمكن ان ينفجر في أي لحظة لولا وجود ونفوذ وإستقلالية القضاء الاميركي بوصفه ناظماً للعلاقة بين السلطات الثلاث، وبينها وبين بقية مكونات المجتمع ومؤسساته.

النصر الذي حققه الاعلام الاميركي في قضية مراسل "سي أن أن" إنجاز مهم. هو من جهة يستفز الرئيس الذي لوح بإلغاء المؤتمرات الصحافية في البيت الابيض، ويفقده رشده، (البسيط أصلاً)، ويدفعه الى المزيد من التهور في إستخدام قواعده وسلوكياته الشعبوية من أجل التشكيك في سلطة الاعلام التقليدي وعرقلة دوره الرقابي ونفوذه السياسي.. وهو من جهة أخرى يحفز المؤسسات الاعلامية الاميركية العريقة على المضي قدماً في مهمة جليلة أنتدبت نفسها لها وهي جعل أيام ترامب الرئاسية صعبة، وربما معدودة. 

قد تكون قضية مراسل "سي أن أن" عابرة، لكنها لا يمكن ان تنفصل أبداً عن قضية الزميل جمال خاشقجي، الذي لولا "صدفة" كونه كاتباً في صحيفة "واشنطن بوست" وحاضراً في الاعلام الاميركي، لما تحول إغتياله الى حجة قوية للدفع في مهمة تدمير الرئيس ترامب وصهره  جاريد كوشنر وكثيرين من شركائهما وحلفائهما في أميركا وخارجها..

العالم كله يترقب الان كيف ستكون نهاية ذلك الصراع السياسي المحلي جداً الذي باتت تداعياته تمس منظومة العلاقات الدولية وقيمها وقواعدها.