الدستور السوري بين الجد والخداع

إياد الجعفري
الأربعاء   2018/10/31

ربما يحق لفريق من السوريين، أن يتساءل، لماذا تُعطى كل هذه القيمة لمسألة وضع دستور جديد لسوريا، وتجاربنا لخمسة عقود في ظل حكم آل الأسد، تؤكد أن لا قيمة للقانون، مهما علا شأنه، في الداخل السوري، وأن الحَكَم في سوريا، هو للقوة والنفوذ.


ويعتقد هذا الفريق أن التركيز على قضية الدستور من جانب لاعبين خارجيين، هدفه إبعاد الأنظار عن السبب الجوهري للأزمة في سوريا، وحرف مسار أي حل سياسي لهذه الأزمة، بعيداً عن بيان "جنيف 1" عام 2012، والقرارات الدولية اللاحقة له، والتي تؤسس أي حل سياسي في سوريا على ركيزة أساسية، وهي إقامة سلطة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. وهو مسار عمل لاعبون كُثر على حرفه، وصولاً إلى مسار "آستانة"، ومن ثم "سوتشي"، ومن ثم وصولاً إلى ما يُعتقد أنه مسار جديد أطلقته قمة اسطنبول الرباعية الأخيرة، بخصوص الشأن السوري.


بكلمات أخرى، يعتقد الكثيرون أن التركيز على قضية "الدستور"، هو مجرد خدعة. ونستطيع أن نقول أن لهم الحق الكامل في هذا التوصيف. إذ من الصعب للسوريّ الذي عاش خمسة عقود في ظل نظام الأسد، أن يفهم أين تكمن أهمية الدستور في حل مشكلاته، إذ لم تكن هذه الوثيقة القانونية يوماً سنداً لسوريّ داخل بلده، كما لم تكن أي وثيقة قانونية أخرى. فماذا سيغيّر من الأمر، لو وضعنا دستوراً نوعياً، دون وجود قوة قادرة على تنفيذه على أرض الواقع، مع استعادة نظام الأسد بدعم روسي – إيراني، للسيطرة على ثلثي التراب السوري.


لا يبدو أن هناك إجابة تتنافى مع ما تقوله هذه الشريحة من السوريين. لكن، لو راجعنا قليلاً، مسار الأحداث المتعلقة، بهذه القضية تحديداً، خلال سنوات الصراع السوري، سنمرّ على حيثية نوعية، تتعلق بنص دستوري "روسي" مقترح لسوريا، يختلف بصورة نوعية عن ذلك النص الذي اعتمده نظام الأسد عام 2012، والذي كان مجرد تنقيح لدستور العام 1973.


هذه الحيثية بالذات، توحي بوجود أهمية لقضية "الدستور" في حالة الصراع على السيطرة والنفوذ، بين اللاعب المحلي (نظام الأسد)، واللاعبين الخارجيين، ومن أبرزهم، روسيا. ومن اللافت في هذه الحيثية، أن "الدستور الروسي" المقترح، يقترب جداً من الرؤية الغربية للحل السياسي في سوريا، في جوانب عديدة، أهمها، صلاحيات الرئيس، ولامركزية الدولة.


في الأيام القليلة الماضية، كان جلياً وجود نقطة خلاف خفية، بين الروس ونظام الأسد. ربما يصرّ البعض على اعتبارها مجرد خدعة جديدة. حيث تدعي روسيا أنها تحاول جاهدة إقناع نظام الأسد بالالتزام، في محادثاتها مع نظرائها، كالأتراك والفرنسيين والألمان، مثلاً. هذا الإدعاء، في نظر البعض، محاولة للابتزاز، واستجرار التنازلات. لكن، في الوقت نفسه، لا يوجد ما يدعم هذه النظرية، في نصوص "الدستور الروسي" المقترح، الذي يحد بشكل نوعي من صلاحيات الرئيس، والذي يشكل ضربة قاصمة لنفوذ بشار الأسد، لو تم فرضه فعلاً، وذلك حسب النصوص المسرّبة.


كما أن رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على سؤال أحد الصحافيين حول مدى قدرة روسيا على إقناع نظام الأسد بالالتزام بتشكيل لجنة دستورية، خلال قمة اسطنبول، يؤكد وجود افتراق بين الطرفين. حيث أكد بوتين نيته العمل على تشكيل اللجنة الدستورية، قبل نهاية العام الجاري. وذلك بخلاف موقف نظام الأسد الأخير، الرافض لأي دور أممي في إدارة عملية صياغة الدستور. وكانت روسيا، ذاتها، قد وافقت قبل أقل من سنة على إحالة مهمة تشكيل اللجنة الدستورية، للأمم المتحدة، مقابل حضور مسؤولين أمميين لمؤتمر سوتشي للـ "الحوار السوري"، في مطلع العام الجاري.


قد يفسر البعض انقلاب النظام الأخير، على الموقف الأممي، وتوجيه ضربة قاصمة لمساعي المبعوث الأممي، ستفان دي مستورا، في أسابيعه الأخيرة قبل انتهاء مهمته، على أنه مجرد مقايضة تم إعدادها بالتنسيق مع الروس. والهدف منها، هو تحصيل مكاسب من تركيا وفرنسا وألمانيا، مقابل الضغط الروسي، المزعوم، على النظام، للالتزام بالمسار المتفق عليه دولياً، لمسألة "الدستور". لكن نعود لنذكّر بالنص الدستوري "الروسي" المُقترح، الذي لا يمكن لنا أن نظن، مطلقاً، أن بشار الأسد مستعد للموافقة عليه. وهنا يُطرح تساؤل: وهل الأسد قادر أصلاً على "الممانعة" في مواجهة الروس؟ يبدو الجواب حتى الآن، نعم. والمؤشرات على ذلك كثيرة، لا تنحصر مثلاً، في محاولات النظام التصويب على الاتفاق التركي – الروسي، بخصوص إدلب، ميدانياً، عبر افتعال اشتباكات مع الفصائل المعارضة، وسياسياً، وعبر تصريحات لوزير خارجية النظام، وليد المعلم، يتهم فيها تركيا بعدم الالتزام بتنفيذ الاتفاق. وعند هذه النقطة، جاء ردّ الكرملين في تصريح للناطق باسمه، ليؤكد على الجهود التركية، ويوضح أن روسيا لا ترى حتى الآن مشكلة في اتفاق إدلب.


منذ أيام، ورد في أحد تصريحات روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق في سوريا، أن الروس والإيرانيين لم يتمكنوا بعد من اختراق الدائرة الضيقة لنظام الأسد. لا نعرف إن كان تصريح فورد هذا، مبنيٌاً على معلومات أم على تحليل. لكن تصريحه هذا، تدعمه سلوكيات عديدة صدرت عن نظام الأسد، مؤخراً، تؤكد مساعي رأس النظام للحد من القبضة الروسية الضاغطة عليه.


وفي إطار مساعي الأسد هذه، تظهر أهمية مسألة "الدستور". فالأخير، لا يمثّل في الوقت الراهن، أي قيمة حقيقية للسوريّين في الداخل، مع سيطرة النظام الأمنية التي يتم ترميمها بشكل سريع، هذه الأيام. لكن، على صعيد صراع النفوذ والسيطرة مع اللاعبين الخارجيين، يبقى "الدستور"، وثيقة تُشرعن حكم الأسد. وإحكام قبضته على نصوص "الدستور"، تدعم حكمه. فكما نعلم، ما يزال النظام، وحتى داعميه، يحاججون العالم، بشرعيته القانونية. وما تزال معظم دول العالم تقرّ بهذه الشرعية المستندة إلى روح معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي ترتكز على مبدأ سيادة الدول. وهي من ركائز النظام الدولي الراهن، المتفق عليها. والتي تبقى ركيزة قانونية يتم استخدامها أثناء أي مفاوضات بين لاعبين خارجيين.


يمكن أن يقبل بشار الأسد بمنح الإيرانيين والروس، قواعد عسكرية، وامتيازات اقتصادية. والانصياع لتوجيهاتهم في بعض اتجاهات سياسته الخارجية. لكنه لا يمكن أن يقبل بنص دستوري يحول صلاحياته المطلقة، المنصوص عليها في الدستور الساري حالياً، إلى حالة أقرب للرمزية. فتلك قد تكون ضربة نوعية لركائز سلطته. ولا بد أن الأسد غير واثق من نوايا الروس حياله. كذلك لا بد أن الروس غير راضين عن تعنته في كثير من المنعطفات الدقيقة للأزمة السورية.


أن تصبح روسيا متحكمة بالشأن السوري، بشكل كامل، هو هاجس روسي، وكابوس للأسد، دون شك. ولا ينحصر كابوس الأسد بالروس، فهو يتعلق بالإيرانيين أيضاً، وباللاعبين الغربيين والأتراك، كذلك. فجميع هذه الأطراف تسعى لتعظيم مكاسبها من السيطرة والنفوذ على الرقعة السورية. وكل هذه المكاسب، هي على حساب الأسد ودائرته الضيقة، العائلية تحديداً، والتي تنحصر اهتماماتها، في الوقت الراهن، باستعادة أكبر قدر ممكن من النفوذ في سوريا. وهذه النقطة بالذات تكشف مدى حساسية مسألة "الدستور" وأهميتها.