السرطان في الرأس

مهند الحاج علي
الإثنين   2017/08/07

يخال المرء نفسه مقيماً في دولة تحترم نفسها عندما يُشاهد مسلسل اتهام منى بعلبكي على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية، إذ أن المسلسل انطلق من قرار تأديبي نادر ضد موظفة مستشفى في بلد يتصدر قوائم الفساد في العالم.

يبقى أن تحقيقاً رسمياً أطلق الفضيحة، وليس الاعلام أو المجتمع المدني أو المعارضة. ولم يرد في القرار أسباب فتح التحقيق الداخلي، لكن بعلبكي أفادتنا في ردها بأن ملاحقتها بدأت اثر دعوى رفعها والد طفل مُصاب بمرض السرطان، بات مشلولاً نتيجة منحه دواء ”بديلاً“. هل جاء التحقيق لاحتواء القضية؟

في التفاصيل، فإن القرار الصادر من الهيئة العليا للتأديب ضد رئيسة قسم الصيدلة في مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي منى بعلبكي، يتهمها بالاستيلاء ”على كمّية كبيرة من الأدوية السرطانيّة الموجودة في المستشفى، والمُقدّمة من وزارة الصحّة العامّة، وبيعها واستيفاء ثمنها بمئات ملايين الليرات لمصلحتها الشخصية، واستبدالها بأدوية أخرى غير فعّالة وفاسدة ومنتهية الصلاحية، وإعطائها لعدد كبير من المرضى المصابين بالسرطان، ومعظمهم من النساء والأطفال، من دون علمهم ومعرفتهم، ما حرمهم فرص الشفاء، وسبّب وفاتهم“. 

بعلبكي، لو ثبتت هذه التهم، خدعت مصابين بمرض مميت وبينهم أطفال، وسببت لهم عذاباً وآثاراً جانبية وحرمتهم من فرص النجاة، وتستحق عقوبة قاسية لما أقدمت عليه. ورغم أن قرار الهيئة كان صارماً في لغته ضدها، لكنه حصر أسئلته بإدارة المستشفى وحدها، دون التطرق الى ثقافة تغوّل تتسم بها معظم القطاعات الحيوية من الطاقة للمال فالاتصالات والبلديات والصحة.

ولنُفكّر قليلاً بالمبلغ، أي مئات ملايين الليرات. هل هذا حجم الفساد في قطاع الصحة؟ بيد أن واردات الأدوية في لبنان تتجاوز المليار دولار سنوياً، إذ تُوفّر مصانع محلية ما بين 5 و8 ٪ فقط من الحاجات الوطنية. وهذا موضع تقصير وهدر محلي، ويُضاعف الفاتورة الطبية للخزينة والمواطن. سوريا مثلاً كانت تستورد 10٪ من حاجاتها المحلية قبل الحرب، فيما تُصدّر الأردن ضعفيّ ما تستورد من الأدوية. هذه نتيجة سياسة تشجيع حكومية لا تتوافر عندنا. 

فعقلية أهل الحكم في لبنان ترتبط عموماً بتنشيط المكاسب الحزبية والشخصية على حساب خزينة الدولة، وحقيبة الصحة غنيمة لأهل السلطة مثلها مثل الأشغال والطاقة والمالية والعمل والاتصالات.

وفلسفة الحكم في لبنان تقضي برفع الفاتورة على المواطن وخزينة الدولة في كل شيء. في قطاع انتاج الكهرباء، كما في الصحة، لبنان متخلف عن دول هذه المنطقة، إذ فشل لعقود في انشاء معمل واحد جديد، بل أعاد قبل أيام إحياء اتفاقية لاستيراد الكهرباء مجدداً من سوريا حيث لم تضع الحرب أوزارها بعد. 

بعد كل ما سبق لم تلحظ هيئات الرقابة الحكومية والقضاء أي خلل أو تقصير يستوجب العقاب في أداء الحكومة، وسلوك وزرائها ومسؤولي الفئة الأولى. ولبنان يُسجّل تدهوراً بيئياً وصحياً غير مسبوق، يشمل ارتفاعاً سنوياً في حالات الإصابة بالسرطان. تخيلوا أن شركة غلاكسو سميث كلاين البريطانية فتحت قبل 3 سنوات، تحقيقاً في دفع موظفيها رشاوى لترويج أدويتها، شمل العراق ولبنان والأردن، وفقاً لصحيفة ”ذي ديلي تلغراف“. في الفضيحة ذاتها، غرّمت الصين الشركة 489 مليون دولار. هل سمعتم عن تحقيق رسمي لبناني في القضية عينها؟

قضية بعلبكي باتت في عهدة القضاء، وقد يصدر أحكاماً فيها سريعاً لتلافي أي انتقادات. طبعاً، لن يستقيل وزير أو مدير عام أو حتى مدير قسم، ولن يعتذر مسؤول سابق. في حال إدانتها، ستُودع السجن مثل أي موزع صغير للمخدرات، على أن يبقى التاجر الكبير حُرّاً طليقاً يتلاعب بأرواحنا ومستقبلنا.