بلد واحد في شعبين

عمر قدور
الثلاثاء   2017/07/25
في أثناء عمليات الاقتراع لانتخاب البرلمان اللبناني لعام 1996 التقت آنذاك محطة LBC مُجنّساً سورياً، وفق قانون التجنيس الذي كان صدر قبل سنتين ولاقى اعتراضات شديدة، وسألته عن سبب مشاركته على رغم كونه سورياً فأجاب: لأننا بلد واحد في شعبين. حينها عمدت المحطة إلى تكرار بث ذلك المقطع للسخرية من وصاية الأسد على لبنان، وأيضاً للسخرية من مقولة "شعب واحد في بلدين" التي يكررها نظام الوصاية وشركاؤه اللبنانيون ولم يفلح ذلك المجنَّس في حفظها جيداً.

حينها لم يكن أحد ليتخيل يوماً يزيل فيه حزب الله الحدود بين سوريا ولبنان، على نحو ما فعل تنظيم الأسد من قبل، وكان هاجس اللبنانيين أولاً الوصول إلى صيغة "شعبين في بلدين". هذه الصيغة التي بدا أنها في طريقها إلى الإنجاز مع تداعيات اغتيال الرئيس الحريري، وكان قد رافقها لأول مرة بيان سوري لبناني مشترك يحمل الهم ذاته عُرف بإعلان دمشق-بيروت 2006، ودفع بعض الموقّعين السوريين عليه الثمنَ اعتقالاً لمدة سنوات. وكما هو معلوم انقلب حزب الله نهائياً على نتائج انسحاب قوات الأسد، مع مهاجمة مسلحيه قوى الاستقلال في السابع من أيار 2008، ومنذ ذلك الحين تواصلت عملية قضمه الدولة اللبنانية على نحو أشد من السابق، وحتى أشد من زمن الوصاية نفسه.

لم تكن هناك حساسية سورية واضحة إزاء وصاية الأسد على لبنان، ولم يظهر إلى العلن سوى بيان مع بداية التدخل في السبعينات، اعتُقل ولوحق الموقعون عليه آنذاك، وإعلان بيروت-دمشق الذي تزامن مع نهاية ما عُرف بربيع دمشق. في المقابل، تضاءلت الحساسية اللبنانية إزاء عدوان حزب الله على السوريين بالتدريج، لتصل إلى أدنى مستوياتها مع التمهيد لمعركة عرسال الأخيرة، ولتنبعث وطنية لبنانية مستجدة عمادها استهداف السوري بوصفه خطراً داهماً عبر (الإرهاب) وعبر اللجوء الذي يهدد التركيبة السكانية.

تُذكّر هذه الوطنية الموسمية بتلك الوطنية السورية التي لفقها إعلام بشار الأسد على عجل، إثر إجبار قواته على الانسحاب من لبنان، وكانت قائمة بشكل أساسي أيضاً على كراهية اللبنانيين الذين سعوا إلى التحرر من وصايته. إلا أن الوطنية اللبنانية الحالية لها وظيفة إضافية هي التغطية على ميليشيا صريحة في طائفيتها، تخوض حربها في عرسال وفي مختلف الأراضي السورية تحت تلك المقولات الطائفية، وسينقضي موسم هذه الوطنية مع انتصار ميليشيا الحزب الذي سيُستثمر في الداخل.

في الواقع بدأت طلائع هذا الاستثمار الآتي مع مقال في جريدة الأخبار، يهدد صاحبه اللبنانيين الذين وقفوا ضد الانتهاكات في حق السوريين، وينذرهم بلا مواربة بالقتل بعد تجريمهم بالخيانة كما يراها. وأن يبادر الجناح الإعلامي للحزب إلى تهديد الآخرين بالقتل علناً فهو قد لا يضع تهديده محل التنفيذ، إذ قد يكتفي "مؤقتاً فقط" بإفهام الجميع أن زمن معارضته قد انتهى، وأن عليهم التأقلم مع المستجدات أو مغادرة البلد.

المقال ذاته يحتوي تهديداً لكل أعداء الحزب من لبنانيين وغير لبنانيين، حيث أمكن لبنادقه الوصول إليهم، والمقصود أولاً هي المناطق التي يسيطر عليها رجال قاسم سليماني من اليمن وصولاً إلى الجنوب اللبناني. أي أن حزب اللـه يريد تكريس إزالة الحدود كأمر واقع مُعترَف به، بعد إزالته إياها منذ بدء عدوانه المعلن على السوريين، وقد سبق لأمينه العام تهديد إسرائيل بجهاديين من شتى أنحاء العالم سيأتون لمساندته في أية حرب قادمة. بالتحديد يرى الحزب، مثل زلة لسان ذلك المجنَّس، أن هناك بلداً واحداً في شعبين، ومن المطلوب التخلص من أحدهما لتصير بلداً واحداً بشعب واحد، أما الشعب المطلوب التخلص منه فهو الذي يعارض سياسة آمري الحزب في طهران.

لم يكن خياراً شعبياً سورياً أو لبنانياً أن يصبح البلدان جزءاً من لوحة نفوذ أوسع، لوحة تضعها أمامها قوى إقليمية أو دولية لتقرر التنازل في بلد وقبض الثمن في بلد آخر. بهذا المعنى سيكون من الدجل الحديث عن تجنيب لبنان آثار ما يجري في سوريا، ما دام السلم اللبناني مستمداً من تصفية الحسابات في سوريا، وما دامت مليشيا لبنانية تأتمر وفق أجندة إقليمية، وما دامت الحروب التي تخوضها هذه الميليشيا ضمن نفس الأجندة، أو حتى ضمن ضوء أخضر دولي.

الاستقواء على اللبناني المعارض والسوري المعارض يأتي ضمن نسق واحد، وتحت أوامر واحدة، وما لم يتم البناء عملياً على هذا الواقع ستبقى معركة اللبناني ومعركة السوري ناقصتين من أجل استقلال البلدين. فحيث بقي تنظيم الأسد ممسكاً بالسلطة في سوريا أمكن بسهولة القضاء على انتفاضة الاستقلال اللبنانية، وحيث ما يزال حزب اللـه بكامل قوته وبلا رادع أمكن لتنظيم الأسد الصمود طويلاً قبل مجيء الدعم الروسي. سيكون مؤسفاً بعد ما هو شديد الوضوح ألا يُرى أبعد منه من قبل سوريين ولبنانيين منغمسين في ردود الأفعال الهامشية، وألا يُرى في الحفاظ على خصوصية لبنان التاريخية مصلحة للبلدين.

لنتخيل لبنان محكوماً مرة أخرى على شاكلة حكم الأسد أو أدهى، هذا مصير لا يستحقه اللبناني مثلما لا يستحقه السوري. لم يعد من مبالغة في تخيُّل هذا المصير بناء على خطوط حمراء لا يتجاوزها الحزب عادة، ويراعي فيها الحساسيات اللبنانية، فالزمن هو زمن الدعس على كل القيم، وإلا كيف تأتى لمن يكون "صحافي" الحزب ألا يكتفي بعنوان مبتذل "موتوا بغيظكم"، وأن يخشى من عدم كفاية الغيظ المزعوم فيهدد بمن يتولى المهمة عنه.