إنهم يحبّون هذه اللعبّة يا مولاتي

أحمد عمر
السبت   2017/07/15

الألمان جعلوا التعليم مؤسسةً حميمة مفعمةً بالملاعب والذكريات والألفة والألّاف، ورحلةً في قارات المعرفة من غير سفر، ولا وعثاء. شعار مدارسهم هو إلعب وتعلم. مادة الرياضة هي أهم مادة على الإطلاق، عندنا الرياضة هي حصة فراغ وثرثرة.

 لكل مدرّس ألماني عدّة وأدوات مساعدة شخصية، أولها كرة صغيرة، بحجم كرة التنس، مزخرفة، تقذفها المدرّسة، التدريس مهنة بنات حواء، العلم مثل الحليب واللبن، بعد تحديد الشريك بالومى يا سهام في العين، وتسأله سؤال التعارف: من حضرتك؟ مع ابتسامة يشيب من هولها الولدان. وسيكون على التلميذ أن يردَّ الكرة بطريقة "هات وخذ" في الملاعب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فيقول معرَّفاً بنفسه: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، فتردُّ : وكيف حالك يا ابن جلا، فيقول: كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ.

سألتْ ماريون عن التعليم باللعب في بلادنا المعطاء، البشر يحبّون التعارف، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، أما المخابرات عندنا، فيحبون معرفة سرِّ الروح، وشهادة المنشأ الطائفي؟ وهي مِنْ أَمْرِ رَبِّي؟ فأقول لها: نحن أيضاً نلعب مثلكم في التعليم.. فيلتفت الطلاب السوريون إليّ مستغربين، مندهشين، وقد وقف فوق رؤوسهم الطير، صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ، وهم يقولون: العمى..  ما هذا الخرط، العلم مقدس مثل العبادة عندنا؟ فأخرط في شوك القتاد: نلعب من الصف الأول حتى التخرج من الجامعة لعبة وحيدة..

 إنها لعبة: عسكر وحرامية.

المدرّسون هم العسكر، والتلاميذ هم حرامية الحرية، أو من في حكم العسكر والحرامية مثل: السادة والعبيد، الحكومة والاهالي، الغزاة والأسرى، القيادة والشعب..

 من عجائب المقادير؛ أنّ عدد زملائي في كل صفوفي التي عبرتها، كما عبر كاظم الساهر الشط على مودك، كان أربعين طالباً، مثل عدد الحرامية في قصة ألف ليلة وليلة. المدرس هو السجّان، هو علي بابا، والتلاميذ هم المساجين: تكتّفوا، سأضرب في المليان، ولا حركة، اهتفوا بأعلى الصوت يحيا الوطن، اخبطوا بأقدامكم الأرض، أوقظوها من نومها، اربطوا الحزام، وكأننا في رحلة جوية، والطائرة ستهبط من غير مدرج، المدرسون لا يحبون أيدي التلاميذ حرة، يخافون من بطش التلاميذ، ويحبّون الصمت والأصنام، سلام الله على الأغنام، عندنا مشكلة تعبير أساسية، أما الذي لا يحفظ النشيد غيباً، فجزاؤه الفلقة وبئس المصير.

سألت ماريون: ما هي الفلقة؟

أهمّ بالشرح، فيتطوع سوريون للنجدة، ويسرقون لحم الكلمة من فمي، وسرقة اللقمة أقل إيلاماً. إن أكبر سرقة في التاريخ، ليس سرقة الأندلس من بناة الحجر الأساس في الحضارة الأوربية، ولا سرقة قارة أمريكا من أهلها الهنود الحمر، وإنما هي سرقة الكلمة التي كانت في البدء.

مدارسنا لها أسوار عالية يا سيدة ماريون، ليس فيها عرق أخضر، اسمنت وحديد مثل الباستيل، ليس فيها كرة واحدة، وإن وجدت، فالمدير يدّخرها للمستقبل البعيد، خوفاً من التمزق على أقدامنا، التي سقط عليها المحال، وأورقت الرجولة والرجال. العرق الوحيد من الغابة، التي جفّت حزناً على اتخاذ أغصانها للعقاب لا للزينة، هو عرق عصا المعلم. وغالباً ما يضرب بحرف المسطرة على أصابع التلاميذ وعظامهم حتى تؤلمهم ألماً يخلده في الذاكرة حتى آخر العمر، وباب المدرسة أسود حديد، وسكانها عبيد، ومفتاحها حديد، وللباب من أعلاه أسلاك شائكة، غير مكتوب في أعلاه: أهلا بك أنت في الجحيم، وأنصال فوق الأسكفة، حتى لا نقفز من فوقها إن تأخرنا دخولاً أو هروباً من جزاء الفلقة. في بلادكم تخدمون في العسكرية شهوراً، أما نحن فنخدم في العسكرية من المهد حتى اللحد، فرئيسنا دائماً جنرال، ويحبُّ لعبة العسكر والحرامية. هي لعبة الجميع ضد الجميع.

قال خان طوماني معترضاً: ولكن وزارة التربية حرّمت الضرب في المدرسة.

قلت: لكن الفلقة أصبحت من نصيب الآباء في فروع الأمن، فمن غير المعقول أن يجلد الآباء في فروع الأمن، والتلاميذ في المدارس معاً، رأى النظام بحكمته وبصيرته أن يكتفي بتربية الآباء تعليماً وتلقيناً، وسينقل الأب علم الخوف إلى الأبناء، هذا تطوير وتحديث في العلم والأدب.

سألتْ: والأهل ألا يغارون على أولادهم وفلذات أكبادهم من كل هذا العنف؟

قلت: سيدة ماريون، الأهل يريدون ابنهم مثل الألف، الحرف الأول في الأبجدية العربية، مثل العصا، مستقيماً، مثل هذا القلم، متعلماً ولا تهمهم الطريقة، يقولون للمعلم الذئب على باب المدرسة: هذا الولد عطية الله، اللحم لك والعظم لنا، فافعل به ما شئت. لكن التلميذ بدلاً من أن يصير مثل حرف الألف، يتحول ذليلا مثل حرف الدال. يكتب المدرس على اللوح حرية، وبالعصا على أقدامنا: اركع لنا.

أخرج وأرسم لها الحرفين، وأقول لها: إني أحبُّ حرف الياء الذي يشبه الحمامة البيضاء.

تضع ماريون يدها على فمها، وهي تكاد تصرخ بعد سماع كلمات من قاموس الافتراس، مثل: اللحم، والعظم، والدم.. هل هذه مدارس أم مسالخ؟

قلت متابعاً شرح نظرية التعليم باللعب واللهو: عملتُ شهوراً عدّة في التعليم، وكان عندي ستة صفوف في القاعة.

قالت: ستة صفوف في غرفة واحدة!

كليني لهمٍ، يا ماريون، ناصبِ، وليلٍ أقاسيهِ، بطيءِ الكواكبِ. الوطن كله غرفة يا مولاتي، ولها سقف لا تكل التلفزيونات عن الدعوة إليه.

هذا في الريف، أما في المدينة، فعدد الطلاب أربعون طالباً في المغارة، وكان عندي تلميذ في الصف السادس ضخم الجثة، ودود، لا يفقه كثيراً، فغضبتُ منه مرة، غيرةً على العلم والنشيد المدرسي، وكان نشيداً عن الوطن الذي يجب أن ندفع عنه بالروح وبالدم، فضربته بالعصا، نعم كنت مسلّحاً، المعلم مسلّح دائماً بالعصا، دفاعاً عن حياض العلم المقدس، مثل الشرطة عندكم، لكن المعلم مسكين، هو أيضاً ضحية، فبكى الولد الضخم، وفرحتُ لأني أستطيع  عصر الدموع من عيون ولد ضخم، بضعف حجمي، وأن  كل هؤلاء الأولاد الأبرياء يخافونني و يهابونني، وفي اليوم التالي غاب، والقرية كلهم أقارب، فسألت عنه، فقيل لي: إنه خائف، وهو يختبئ في خرابة قريبة من المدرسة الطينية، خائف من أهله، وخائف مني. سيختبئ فيها حتى موعد الأوبة من المدرسة، فتركتُ الصف، وقصدتُ الخرابة، فوجدته في زاوية مقعياً ينتظر حتى نهاية الدوام المدرسي، في البرد والعواصف تحت المطر، فتقدمت منه، وقلت له: ماذا تفعل هنا ؟

فقال لي بنبرة يوليوس قيصر، وقد طعن طعنة الموت في الظهر: ضربتني فأوجعتني يا أستاذ.

وأبرز لي أصابعه مزرقّةً.

عانقته واعتذرتُ منه، وعدتُ به إلى الصف، وتركته لشأنه، في ما بعد عدتُ إلى البيت، واعتكفت، واستغفرت ربي، وبكيت، كنت قد نلت عقوبةً مشابهةً، وأنا في عمره على ضحكةٍ في الصف، ونحن في رهبة المدرسة نضحك لكل شيء، لسقوط قلم في الصمت، لصوت نافذة تهزها الريح، لعطسة زميل، فصفعني المدرس على وجهي، صفعةً ما زالت تدوّي في أذني. الدنيا دولاب، والحياة انتقام من غير غرام، الشعب يريد إسقاط النظام.

 الصمت خيّم على الجميع، وقد فتحتْ زميلتنا اليونانية سيلين فمها العنقود، وكانت ماريون ترجف من غير عاصفة، والزملاء أبصارهم خاشعة.

اعترض خان طوماني من وراء نظارته ثلاثية الأبعاد: لا يا سيدتي، نحن نقدّر المعلمين، شعارنا: من علمني حرفاً، كنت له عبداً، قم للمعلم وفّهِ التبجيلا..

إلى آخره، إلى آخره.

تابعتْ: تستمر لعبة عسكر وحرامية، بأشكال عدة، أحياناً نلعب الغميضة، أحياناً لعبة المفتش، وهي نفس اللعبة التي حبك بها الكاتب الروسي غوغول مسرحيته الشهيرة. يفتش النظام الدولي عن السارين، ويغمض في الغميضة  الدولية عن كل أنواع القتل والوحشية والاغتصاب، سوى عن الكيمياء،  يسمح فقط بلعبة الكلور، التي تسبب الغميضة الدائمة، من أسماء الغميضة: الشفافية، وشاهد ما شفش حاجة، والسلطة الرابعة، وهي سلطة واحدة تذوب فيها السلطات، فلا فصل بينها، هذه اللعبة هي لعبة أمريكا المفضلة دولياً، وهي لعبة فرنسا، ولعبة روسيا، ولعبة داعش اللعبة، وها هي الدول العظمى تنظر إلى سوريا والعراق ولبيا، إلى حواضر الكون الأولى بشماتة، وهي تحرق، وإلى الفوسفور الروسي والأمريكي والإسرائيلي، وكأنها ألعاب نارية.

العسكر، هم الحرامية، والحرامية هم العسكر، وختمتُ: التعليم عبر التخويف والإرهاب، هو العلم العالمي. لم نتغير، ونحن بحاجة إلى نجدة من حفيد الغراب، لتعليم الغميضة تحت التراب من جديد. وكان القاتل الأول قابيل، قد أصبح من النادمين، أما اللاعب الحالي، فلا يندم، لأنه يحب اللعب بالبشر والحجر والقدر.

هرعت ماريون إلى الشرفة، تطلب أنفاساً من الهواء النقي، وسعياً لتجفيف روحها المسربلة بالوجد تحت الشمس، بعد أن ابتلت من غير مطر، فاقتدى بها الزملاء.

تعالى الدخان من الأفواه..

عبر سرب من البط السماء..