عن المعارضة والثورة

علي العبدالله
الأربعاء   2017/03/15

تواجه الثورة السورية، وهي على أبواب عامها السابع، لحظة شديدة الدقة والتعقيد في ضوء تعرضها لضغوط عسكرية وسياسية من قوى إقليمية ودولية تعمل على دفعها إلى القبول بالمعروض عليها عسكريا وسياسيا، وهو لا يلبي ابسط تطلعات المواطنين، أو الاستعداد لمواجهة القتل والدمار. وقد زاد في دقة وضعها بروز ظواهر سلبية في صفوف معارضي الصف الأول، الذين جاء معظمهم من أحزاب المعارضة التقليدية ومثقفيها واحتلوا مواقع متقدمة في المؤسسات السياسية التي تشكلت لتمثيل الثورة والتحدث باسمها في المحافل الدولية، تجسدت في تنصلهم من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع الثورة وتنطحهم لما أسموه "إصلاح" الثورة دون تحديد المسؤوليات والاعتراف بفشلهم في التعاطي مع الثورة الشعبية وما ترتب على ممارستهم طوال سنوات الثورة المجيدة من سلبيات وخلفته من هزائم.

جاء القسم الأعظم ممن تصدروا صفوف "المجلس الوطني السوري" بداية  و "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" تاليا من أحزاب المعارضة التقليدية، جاءوا حاملين معهم قناعاتهم بأنهم قادة ونمط عمل أحزابهم(اجتماعات في غرف مغلقة، نقاش حول أفكار وتصورات عامة، صياغة أوراق عمل دون خطة لتنفيذها ما يبقيها في الإدراج)، كان للأميركيين تعليق طريف على الفرنسيين يقول:"يعتقد الفرنسيون أنهم إذا ما تكلموا عن موضوع ما بشكل جيد فإنهم بذلك يكونون قد حلوه"، وهذا كان حال معظم أحزاب المعارضة التقليدية، أحزاب معظم قواعدها، وهي قليلة على أية حال، مدينيون ومن الطبقة الوسطى وكبار السن، وجودها في الأحياء الشعبية والأرياف نادر، في حين كانت جماعات السلفية العلمية(أقرأ النظرية) تجوب الأحياء الشعبية والأرياف وتنشر فيها قراءتها للإسلام وما تقتضيه من مواقف وممارسة في الحياة اليومية ما مهد الأرض لحركات السلفية الجهادية التي ظهرت خلال الثورة ومنحتها فرصة كبيرة لكسب حواضن اجتماعية ومحازبين ومتطوعين، ناهيك عن غيابها الكامل عن الاتحادات والنقابات المهنية التي احتكرها النظام، لذا واجهت، مع انطلاق ثورة الحرية والكرامة، مشكلة عدم وجود مفاتيح ووسطاء بينها وبين سكان الأحياء الشعبية والأرياف الذين شكلوا معظم جمهور الثورة، وهذا دفعها إلى محاولات بائسة لاحتواء الثورة عن طريق تقديم دعم مالي لبعض التنسيقيات الشبابية والترويج بتبعيتها لها أو عن طريف تشكيل تنسيقيات خلبية وتضخيم حجمها ودورها في فعاليات الثورة والادعاء أنها موجودة في قلب الثورة.     

كشفت ممارسات أحزاب المعارضة عن نقاط ضعف كثيرة وخطيرة تبدأ بانفصالها عن المجتمع وهشاشة علاقتها به وبضحالة معرفتها بما يعتمل داخله من تفاعلات، ناهيك عن جهل فاضح بالنظام وبناه وقواه والعقل الأمني الذي يديره، ما نم عن فقر تجربتها النضالية وعن سيطرة تصورات وتقديرات نمطية سطحية على عقول معظم قادتها.

كانت المعارضة اليسارية والقومية متعايشة، بدرجة أو أخرى، مع نظام البعث لاعتبارات عقائدية تتعلق بقراءتها لواقع الأنظمة العربية وتقويمها الايجابي لما سمي بـ "الأنظمة التقدمية"، ما دفعها إلى التعاطي مع ممارسات نظام "الحركة التصحيحية" لاحقا بايجابية واعتبار القمع والقبضة الأمنية أخطاء في الممارسة، والاستحواذ على المال العام عبر السيطرة على الدورة الاقتصادية، وتجييرها لصالح عدد محدود من وكلاء النظام، سلوك مسؤولين فاسدين، وهذا بالنسبة لها لا يمس بجوهر النظام الوطني التقدمي. وقد سادت مقولة " أن الرئيس(حافظ الأسد)عظيم بس إلي حوالييه سيئين وهو مو عارف شو عم يصير بالبلد" طوال عقد سبعينات القرن الماضي.

الحركات الإسلامية، جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات السلفية والصوفية، عارضت النظام لاعتبارات دينية أكثر منها سياسية، وكان موقفها من مواد في دستور 1973(دين رئيس الدولة وانتماء حافظ الأسد المذهبي ومصادر التشريع) تعبيرا واضحا عن غياب السياسة عن موقفها وابتعادها عن المشكلات الأمنية والاقتصادية والخدمية التي تهم ملايين المواطنين. وهذا وضعها في تناقض ليس مع النظام وحسب بل ومع قطاعات واسعة من الشعب السوري والأحزاب اليسارية والقومية، كانت جماعة الإخوان المسلمين قبل ذلك قد تحمّلت تبعات الصراع بين النظام الناصري والجماعة الأم في مصر وخسرت جزءا كبيرا من سمعتها وشعبيتها، ما سّهل على النظام لدى انفجار الصراع معها على خلفية معارضتها للدستور عام 1973 عزلها وضربها بقسوة دون خوف من رد فعل اجتماعي.

تغير موقف هذه الأحزاب بعد مذبحة حماة، والقضاء على جماعة الإخوان المسلمين، في ضوء تصرف النظام كمنتصر ورفضه وجود أصوات تنتقده أو تغرد خارج سربه، وسعيه إلى إخضاع المجتمع بالكامل واستهدافه لكل القوى السياسية دون تمييز، ما دفع أحزابا يسارية(أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي وحزب العمل الشيوعي) إلى تصعيد نقدها له، وهذا عرّضها لعملية ملاحقة وقمع استئصالي بزج معظم أعضائها في السجون وبأحكام طويلة.

غير أنها(الأحزاب) عادت إلى غيبوبتها السياسية واستقبلت تسلّم الرئيس الجديد السلطة بايجابية وصدّقت وعود خطاب القسم(تحدث الأستاذ حسن عبدالعظيم عن الرئيس الجديد بايجابية كبيرة وإعجاب شديد قائلا:"انه منع رفع صوره في الدوائر الرسمية والمحلات العامة") إلى أن أخرجها النظام منها بحملته الإعلامية والاعتقالات التي طالت رموز ما عُرف بربيع دمشق، واستخدامه القوة في مواجهة احتجاجات سلمية في السويداء عام 2001 على خلفية صدام بين فلاحي المحافظة ورعاة من البدو وانحياز المحافظ للأخيرين ذهب ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، وفي معظم المحافظات في عام 2004 على خلفية شغب الملاعب وإطلاق الرصاص الحي على المواطنين الكرد في مدينة القامشلي.

تحركت أحزاب المعارضة على خلفية ارتياحها لمحتوى خطاب القسم وتصديقها لوعوده تحركا منخفض السقف حيث اكتفت برفع شعارات ومطالب حقوقية(رفع حالة الطوارئ، التوقف عن الاعتقالات والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات العامة والخاصة). لم تكتف بالابتعاد عن جوهر النظام، كنظام مستبد وفاسد، وحسب بل وابتعدت عن نقد سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستئثار بخيرات البلد والتمييز بين المواطنين على أسس عرقية ودينية ومذهبية وتجاهله لمعاناة المواطنين بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد لسنوات ودمر حياة قطاعات واسعة تعتمد في معيشتها على الزراعة وتربية الماشية، وزاد في الطين بلة تبنيه لما اسماه اقتصاد السوق الاجتماعية، التسمية تعكس نيته إخفاء طبيعة النظام الاقتصادي الذي تبناه: اقتصاد السوق، الذي انعكس سلبا على حياة فئات واسعة من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود بسبب تقليصه الدعم عن عدد من المواد الاستهلاكية والمحروقات ما رفع الأسعار وضرب قدرتهم على توفير احتياجاتهم اليومية.

تعمق هروب أحزاب المعارضة من سياسة المواجهة في ضوء الضربة الأمنية التي تلقاها "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" على خلفية دعوته في البيان الختامي لمجلسه الوطني، عقد في دمشق يوم 1/12/2007، باعتقال معظم أعضاء أمانته العامة، وسعى بعضها إلى تبرير عدم تضامنه مع معتقلى "الإعلان" بترديد رواية النظام عن علاقة "الإعلان" بجهات خارجية وانخراطه في مؤامرة ضد النظام الممانع والمقاوم، كان حزبا الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي قد انسحبا من "الإعلان" على خلفية خسارتهما في الانتخابات وشنا هجوما إعلاميا على "الإعلان" بررا فيه خروجهما بسيطرة الليبراليين أنصار أميركا على "الإعلان"، الفترة من 16/10/2005، تاريخ تأسيس "الإعلان"، إلى 1/12/2007، تاريخ عقد مجلسه الوطني، حافلة بالمؤشرات التي تعكس طبيعة الأحزاب المشاركة فيه ودرجة نضاليتها حيث كانت في معظمها تتجنب الاتفاق على تحركات ميدانية وتتهرب من المشاركة فيها إذا ما اضطرت للموافقة على تبنيه، في حين كان شباب لجان إحياء المجتمع المدني والمستقلون في طليعة المشاركين فيها.  

لم تسمح العوامل والمعطيات السابقة بحصول تواصل والتحام بين أحزاب المعارضة التقليدية وشباب الثورة وقد زاد في تعقيد العلاقات بين الطرفين وتوتيرها بقاء الأحزاب عمليا خارج الثورة ومحاولتها في الوقت نفسه استثمار المناخ الذي إشاعته والدخول في حوار مع النظام علها تحقق مطالب سياسية كانت رفعتها قبلا دون أن تحقق منها شيئا. وهذا، بالإضافة إلى خروج أغلبية كوادر الصف الأول فيها خارج البلاد وفرض تصوراتهم ورؤاهم على "المجلس" و "الائتلاف"، لعب دورا في إرباكهما ووضع الثورة على الطريق نحو اللحظة السياسية الراهنة وما تنطوي عليه من مساومات وحلول تنذر بضياع تضحيات ملايين المواطنين.