"السفير" حين كنا "الخلايا النائمة"

رشا الأطرش
الخميس   2017/01/05
جريدة "السفير" تصدر عددها الأخير. الخبر ما زال حزيناً، وإن إبتُذل، مرة تلو الأخرى، كشائعة استعطاف مالي وسياسي. ومع ذلك، في الأمر ما يبعث على شيء من الكآبة. ليس فقط من أجل الذكريات، وأكثر من عشر سنوات من العمر مضت خلف تلك المكاتب القديمة وفي أروقتها الضاجة بالحياة والشغب، بالخيبات والبهجة، بفورات الشباب وحصاد الخضرمة. ليس فقط من أجل العشرات، بل المئات من الزملاء الصحافيين والفنيين والمصوّرين والإداريين، عائلاتٍ وأفراداً، سيصبحون على قارعة المجهول. بل أيضاً من أجل صوت "آخر". نعم، الصوت الذي كنا – ذات زمن – نشبهه أو نظنّ، ومنذ سنوات ما عاد يشبهنا، لكننا نتمنى بقاءه خوفاً من حدّة الأبيض والأسود ووقاحتهما، واستئناساً بتدرجات الرمادي إن لم تُقدَّر لنا تلاوين التعدد. صحيح أن مشوار "الذين لا صوت لهم" اختُتم على صدى "الصوت الأعلى" في السياسة والأمن والمدنيات، لكن بقاء الصوت هذا، يَقينا، كصحافيين ومواطنين، شرّ الحصرية في الانكفاء إلى أصواتنا.. أو هكذا أملنا، بسذاجة.

الكتابة النقدية عن تجربة العمل في "السفير" (1999-2010) ليست رمياً لحجر في البئر. كما أنه لا حنين فيها بالتأكيد. الكتابة هذه، اليوم، وتحديداً من خارج "السفير"، زيارة واجبة، بالعقل المُراكِم أولاً، وبالذات التصالحية ثانياً. ولعلها ميزة "السفير" أنها تستحق مثل هذا الجهد، وِدّاً وعَتَباً.

هي الجريدة التي لم تصبح مؤسسة، رغم محاولات 43 عاماً، لكنها مأسست ديناميتها الداخلية. هي "العائلة المالكة" التي لم تنجز إرثها. والعابرة للطوائف بأصوات الناس والشارع... أو أن هذا ما لا ينفكّ الشباب من صحافياتها وصحافييها يتعلمونه من "السفير"، إلى أن يجدوا أنفسهم مدافعين عن المبدأ هذا في مواجهتها كلما استبدّت بها انحيازاتها المالية والمذهبية والسياسية.

"الهيئة النقابية لموظفي السفير" لا بد أن تعلّمك درساً أو اثنين عن العمل النقابي المباشر، غير المتوافر في أي مؤسسة إعلامية أخرى في لبنان، رغم أغلال موصوفة تكبّل حركة النقابة، ودسائس معروفة تقضم بعضاً من آمال المعوّلين عليها. وعندما كان مشروع رفيق الحريري السياسي والاقتصادي والإعماري والإعلامي في أوجّه، كان نقد "تلفزيون المستقبل" مثلاً، أو مخطط "سوليدير"، مشكلة "إدارية" يجدر التأهب لها. ولما تكرّس صعود "الشيعية السياسية"، فإن النقاش بشأن نشر صورة احتفال مدارس "المبرّات" بالفتيات "المكلّفات" (اللواتي بلغن سن ارتداء الحجاب)، تحول إلى صِدام، انتهى طبعاً بنشر الصور التي ما كانت لتجد لها مكاناً في صفحة "التربية" قبل سنوات قليلة.

"السفير" إذن...
هي "القومية"، "العروبية"، "اليسارية"، "الشيعية". ومن مكانها السياسي هذا، قد ترتفع أصوات أخرى. منذ عقود، تصنع الأسماء. أسماء كثرة تغادرها لتتوزع في مواقع التأثير والإبداع والقيادة، في وسائل إعلامية لبنانية وعربية شتى. في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان "فتيان" في العشرينات من العمر يكتبون في صفحتها الأولى ويترأسون أقساماً وصفحات داخلية. وظل الأمر هكذا لوقت لا يستهان به. الأسماء الوازنة غالباً ما تُبرعِم بين دفتي "السفير"، ثم تتركها لحظة نضوج أصحابها وتحققهم. لماذا؟ الإجابات عديدة، وبعضها ما زال محيّراً، حتى بعد الإقفال. هي الجريدة حاملة الشباب، إلى أن ترتطم رؤوسهم بسقف العائلة، أو حاجز "الخط السياسي" الذي راحت هوامش معارضته تضيق يوماً بعد يوم، منذ العام 2005، حتى انتفت. ربما كان جيلنا آخر الأجيال التي سكنتها "السفير" كمدرسة في الصحافة والكتابة، كساحة للتلاقي مع مؤثّرين، معرفياً ومهنياً وإنسانياً. لكنها مدرسة، لم تعرف كيف تصبح... جامعة.

طبعاً، فيها "المُخبر الصحافي"، ورَجُل نبيه بري أو حسن نصرالله أو إميل لحود أو نجيب ميقاتي. لكنك كنت تجد فيها أيضاً صحافيين وصحافيات ينزلون إلى الأرض، يتحدثون إلى مواطنين، ويجادلون مسؤولين، ينبشون وجوهاً مهمّشة فيضيئونها بالبورتريهات الصحافية، يتحدّون السائد (ما استطاعوا)، ويطوّرون لغتهم ومداركهم في السياسة والإنسانيات والثقافة. وذلك ليس بفعل "قيادة" خبيرة تُدرّب مستجدين متحمسين، إلا بحدٍّ محدود. الأهم كان التفاعل الأفقي بين مكوّنات مثيرة للاهتمام لطالما اجتذبتها "السفير"، على الأقل حتى العقد الأول من الألفية الثالثة. ورغم أنه لم يتسنّ لهؤلاء الموهوبين أن يصيروا كل الجريدة أو صنّاع قراراتها، لكنهم امتلكوا صوتاً، في أقسام وصفحات، في الاجتماع الصباحي، وفي "المطبخ الصحافي"، ولو فقط كنقّاد من الداخل. جريدة الأضداد كانت. ربما لم تعد كذلك منذ سنوات، وبرومانسية قد نفكّر أن هذا أحد أسباب النهاية. لكن المؤكد أن "السفير" تبقى محطة أساسية. سيرتها في سيرتك الذاتية، تتكاملان وتتجاذبان.

لم نكن جيل التأسيس، فذاك جيل الحرب. كنا جيل ما بعد اتفاق الطائف، بكل توازناته وتناقضاته، وسِلمِه المُعتلّ. لكننا، وإذ كنا نسمع أسلافنا يروون تجاربهم وذكرياتهم في "السفير"، كنا نشعر باستمرارية ما، إلى جانب قَطعٍ ما أيضاً. الحماسة، القضايا، الصداقات، بناء المهنة كحِرفة، قصص الحب والزواج، الإنجازات، الأحلام، السهرات... ثم الرقابة، الصراعات، التعسف المهني والمالي، الانحيازات الداخلية والخارجية، الدكاكين، والغضب. ننتمي أو نتفارق، لكن السردية ظلت متناغمة إلى حد كبير، بين ذاكرتنا وذاكرات المؤسِّسين.

الكائن الحي هو الذي يتغير. وبهذا المعنى، لطالما كانت "السفير" بشرية، ربما اكثر من اللازم، وربما أكثر مما تحتمل جريدة يفترض أنها تطمح لأن تكون مؤسسة. بشرية في "عائليتها"، في براغماتيتها السياسية، في تناقضها الطائفي-الشعاراتي. وحتى في لوغو "الحمامة البرتقالية"، بلون برتقال يافا، إذ حدث أن رفرفت ذات يوم فوق مانشيت "اليوم صبرا.. وغداً شاتيلا" أيام حرب المخيمات (1985-1988). وهو التناقض الذي استمر، فسَطَع خلال "حرب نهر البارد" (2007) كتناقض بين "حب فلسطين"، وبين مؤازرة الجيش اللبناني في ضرب فلسطينيي المخيم الفقير. وتجلّى يوم 7 أيار 2008، بين عشق بيروت "النوارة" و"الأميرة"، والتي لطالما كان أهلها رافعة قرّاء الجريدة، وبين موقف ضد ناس بيروت وإلى جانب "المقاومة" مهما اقترفت، ولو غيّرت وجهة سلاحها من إسرائيل إلى صدور لبنانيين آمنين وإلى منشآت عاصمتهم. تماماً كما صار النظام السوري هو سوريا، دون الشعب السوري المذبوح. والجريدة مع اليسار كهوى، في الثقافة والمجتمع وبعض السياسة، ومع اليمين الإسلامي "كمقاومة" ضد إسرائيل (أو هكذا يقال) وضد "عملاء الداخل"، ويُغفر لتلك "المقاومة" قتل يساريين، وتهشيمها (مع آخرين) للبنان كوطن وكدولة. وكأن نُصرة المقاومة نُصرة الفن للفن.

"السفير" مكان لإنشاء صداقات العمر، ولقصص الغرام، ولتكوين هوية سياسية على ضفاف الشأن العام. حلقات النقاش منعقدة على الدوام، لكلام في السياسة والتاريخ والرواية والموسيقى والسينما. السهرات في المكاتب أحياناً حتى منتصف الليل، من دون عمل فعلي بالضرورة. يحضر ابريق الشاي، تُشعَل سجائر بالجُملة، وتعلو الموسيقى من أجهزة الكومبيوتر، لتدور أحاديث ملونة، وصولاً أحياناً إلى غناء ورقص، أو هتاف مع الشيخ إمام، من دون أن تعبس "الإدارة". بل على العكس، قد تُرمى ابتسامة تواطؤ على الشغب بالفرح، باعتباره دليل حياة في "السفير".

حتى العام 2010، كانت متاحة "المعارضة" من داخل الجريدة. متاح نقد "8 آذار"، بل والاصطفاف مع "روحية 14 آذار الأولى" أو، لنَقُل، مع ليبرالية معقلنة. كنا نُسمّى "الخلايا النائمة". ورغم استبطان الدُّعابة لـ"تُهمة"، فإن اللعبة كانت لا تزال مدعاة ابتسام. كانت لا تزال لعبة. ثم سرعان ما تحولت آلية ماكارثية صلفة لتطهير الجسم السفيري من "شوائب" الاختلاف. لكن قبل تسارع الآلية هذه، كانت المفارقة التالية هي الأكثر تعبيراً عن "سفير" جيلنا: ليلة 7 أيار 2008، عَلَت من أحد المكاتب ضحكات ساخرة على "سقوط" بيروت في ساعتين. وجلسة العصف الذهني للخروج بعنوان المانشيت، كانت أقرب إلى سهرة سَمَر أنتجت عنواناً مشيناً.. ثم في اليوم التالي، أَحرَجت احتجاجاتُنا رئاسةَ التحرير وإدارتها. كان الإحراج ما زال في متناولنا. وتقرَّرت، ثم نُشرت بالفعل، سلسلة تحقيقات عن بيروت وأهلها، والجبل وأهله، وما عانوه وخسروه في تلك "الغزوة"، ولو سعت "الرقابة" إلى فلترتها ما أمكن. كان "النضال من الداخل" ما زال ممكناً، لكنه لم يَدُم.

أيضاً وأيضاً...
كنا "بنات السفير". وكنا، على ما يبدو، مضرب مثل. فقد أَسَرَّ لي صديق صحافي مؤخراً: "كنا نخشاكنّ.. صحافيات السفير قويات جريئات.. صحافيات فعلاً، لا مزاح سهلاً معهن". "السفير" هي الجريدة الوحيدة التي طبّقت بجدية، توصية الأمم المتحدة بتسليم الإعلام للصحافيات في يوم المرأة العالمي، مطلع الألفية الثالثة. الزميلات أدرن الأقسام والصفحات كلها تقريباً، ليوم واحد، وخرج عدد مميز وحقيقي. لطالما كانت "السفير" حقيقية في احتفالها الدائم بصحافة الشباب كفئة عمرية، وبالنساء المهنيات في أسرتها كتمييز جندري ايجابي، وربما لهذا حافظت على بعض ألقها، ويفاعتها، حتى النزع الأخير.

كثيرون يربطون بين صعود "جيل الألفية" السفيري، وبين جوزيف سماحة كرئيس للتحرير (2002 – 2006). لعله افتراض لا يخلو من صحّة، لكنه جزء من الواقع فقط. والدليل أن جوزيف، عندما أسس "الأخبار"، حاول أن ينقل معه أجواء "شبيبته"، لكن جَوّ "الأخبار" بدا دوماً أقرب إلى التلاحم الدوغمائي الحزبي المستجد، المتمحور حول جوزيف كشخص، والذي، برحيله، انكسرت روابط التشابه الإنساني، لتحلّ محلها روابط "الولاء". أما "السفير"، فقد كانت لُحمتها الجيلية أكثر أصالة، وتبايناتها الضمنية جعلتها أكثر مرونة وجاذبية... إلى حين.

كلام كثير يقال عن الجريدة التي موّل انطلاقتها معمّر القذافي، وأمّن استمراريتها "حزب الله"، وما بينهما أثرياء ورجال أعمال وسياسيون ممانعون وأزلام للنظام السوري (علماً أن كل الإعلام اللبناني مموّل سياسياً، بلا استثناء). وكلام مهم قيل، في السياسة والاجتماع والثقافة، عن "جريدة الحركة الوطنية"، وما عناه صدور "السفير" عشية الحرب اللبنانية، وتلازُم تطور الجريدة والحرب معاً، وصولاً إلى الثورات العربية، لا سيما المذبحة الأسدية في سوريا. ذكريات مانشيتات كثيرة ستنهمر: من كاريكاتير "صباح الخير يا بيروت"، لناجي العلي، إبان الاجتياح الإسرائيلي.. وصولاً إلى "أهكذا يكون الوفاء يا جبران"، قبل شهر واحد من اليوم، نُصرةً لسليمان فرنجية ضد جبران باسيل وميشال عون(!). لكن ثمة من هو أقدر على توثيق ذلك التاريخ، وتحليله، بقديمه وجديده. أما السطور أعلاه، فهَمُّها في زمنها الخاص، وفي حقبتها السفيرية المحددة منذ البداية، من قبيل تدوين ذاتي وتاريخ فردي اشتبك مع المبنى القديم في نزلة السارولا، فاقتضى البوح مرة واحدة وأخيرة.