لائحة الكنيسة ويوجينيتها

شادي لويس
الأربعاء   2016/03/16

في مطلع القرن العشرين، كانت الأفكار اليوجينية، مدعومة بتراكمات المعرفة العلمية في مجال علم الوراثة، وتصاعد جماهيرية فلسفة نيتشه عن الإنسان الفائق، قد وصلت إلى حيز التطبيق العملي، في سياسات وقوانين الدول الغربية، والتي في سبيل إنتاج مواطنين نموذجيين ، قننت منع المعاقين والمصابين بأمراض وراثية والمرضى العقليين من الأنجاب، أما بالتعقيم (الإخصاء)  أو بمنعهم من الزواج . وفي النصف الأول من الثلاثينات كان وصول هتلر للحكم في ألمانيا الخطوة النهائية  لدفع اليوجينية  الى حدها الأقصى بتطبيق سياسات الاستئصال لا التعقيم فقط. وفي أوج صعود النازية، وربما من باب المصادفة البحتة ، أقر المجلس الملي القبطي لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس في سنة 1938، قبل عام واحد من اجتياح القوات الألمانية لبولندا، واشتعال الحرب العالمية الثانية.  

تدوالت وسائل الإعلام المصرية في الأسبوع الماضي أخبار توافق المجمع المقدس للكنيسة القبطية على اللائحة الجديدة للأحوال الشخصية للأقباط. وبالرغم من أن تعديلات اللائحة  كان الغرض منها الحد من المشكلات التي يواجهها الأقباط في ما يخص الطلاق والزواج الثاني، بإضافة بنود تتيح التطليق، من بينها  الهجر لمدة خمسة أعوام، إلا أن الحكم بالتطليق ما زال لا يلزم الكنيسة بمنح تصريح بالزواج الثاني بحسب اللائحة.  لا تكتفي المسودة الجديدة  بالتحايل على معضلة الزواج الثاني، وإعادتها لوضعيتها الأولى، بل أيضا تحتفظ بموانع الزواج المنصوص عليها في اللائحة السارية، الصادرة في العام 1938، والتي تحمل بصمات يوجينية ليس من الصعب تبينها، فالمادة 31 من اللائحة الجديدة كسابقتها لا تجيز الزواج للأفراد المصابين بسلسلة طويلة من "الأمراض القاتلة" أو التي"تمنع الأتصال الجنسي" منها: العنة والخنوثة والخصاء والسل المتقدم والسرطان والجنون والجذام وغيرها.

تحتفظ الكنيسة بنص يعود للنصف الأول من القرن الماضي، متذرعة بخطاب طبي متحفي، دون أدنى جهد لإعادة صياغته ليواكب تراكمات المعرفة الطبية، فهل لازال السرطان على سبيل المثال مرضا قاتلا أو العنة مانعاً للاتصال الجنسي ؟ بالإضافة إلي ذلك، يحيلنا النص إلي تعريفات فضفاضة لا يمكن التعويل عليها طبيا وبالتالي قانونيا، فما هو المقابل الطبي  للخنوثة أو الجنون ؟ وماهي الأمراض القاتلة ؟  تظل تلك مشكلات تقنية، لكن المعضلة الأفدح لتلك النصوص هي أخلاقية وسياسية بالأساس. ظلت نصوص لائحة 1938 الخاصة بموانع الزواج الصحية غير مقترنة بإجراءات طبية لتفعيلها عمليا حتى الثمانينات، لكن ومع تزايد دور الكنيسة السياسي في عهد البابا شنودة الثالث، وفرض هيمنتها الكاملة على كافة مناحي الحياة الشخصية والعامة للأقباط، بالتوازي مع التقدم الطبي المتسارع في تكنولوجيا تشخيص الأمراض، وإنخفاض تكاليفها، بدأت الكنيسة في تقنين إجراءات طبية ملزمة للأقباط  في سبيل الحصول على تصاريح الزواج، منها إجراء تحاليل  تثبت الخلو من الأمراض المانعة للزواج. وبالرغم من التساهل الكنسي بخصوص تلك الإجراءات في معظم الأحيان، إلا أنه في بعض الحالات رفضت الكنيسة منح تصاريح الزواج لأفراد، لا بسبب الأمراض المنصوص عليها باللائحة فقط ، بل لأسباب صحية أخرى، منها العقم والأمراض الوراثية التي يمكن نقلها للأبناء.

تفرض الكنيسة ومعها الدولة، بنص القانون، ودون أي سند لاهوتي، ولاية مسبقة على أدق تفاصيل الحياة الشخصية للأقباط، وأكثرها حميمية، وتعزل قطاعاً منهم، بوصمة المرض، وتحرمهم من واحد من أبسط حقوقهم الأساسية في شريك الحياة، وتكوين أسرة. تحكم الكنيسة على المصابين بأمراض بعينها من الأقباط بالإخصاء الإجتماعي، وتحرم احبائهم من خيارهم في أن يشاركوهم آلامهم ومعاناتهم حتى ولو أرادوا، وتنزع من عموم الأقباط أهليتهم  كمواطنين، وحقوقهم القانونية والطبيعية المنصوص عليها في القوانين المصرية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته السادسة عشرة: "للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين."

لا تقع مسؤولية الوقوف أمام مسودة القانون الجديدة على الأقباط وحدهم، بل وفي المقام الأول على الدولة التي ترغم مواطنيها من الأقباط على الحصول على تصريح كنسي لإتمام زيجاتهم، بنص القانون، وعلى نقابة الأطباء التي عليها أن ترفض أن تكون شريكا في وصم المرضى من الأقباط، وتطبيق أخصاء إجتماعي ممنهج عليهم باسم الطب والدين، وعلى المعنيين بحقوق الإنسان والمواطنة في مصر  الوقوف أمام إعادة إنتاج قوانين تمييزية ضد الأقباط عموما، ومن يعانون من أمراض بعينها بينهم، وأمام التمسك بنصوص قانونية لاإنسانية . ويظل أيضا على المعنيين بالشأن السياسي في مصر عموما، الضغط لأصدار قانون يسمح  لمن يريد من الأقباط بالزواج المدني، فالخطوة الأولي لعتق الأقباط من سيطرة  الكنسية على شؤونهم العامة والسياسية ، هو بتحريرهم من القوانين الظالمة التي ترغمهم على إخضاع أدق شؤونهم الخاصة لسلطاتها المطلقة.