النساء جرح نرجسي ذكوري

دلال البزري
الخميس   2016/12/29

                   

في "الزمن الجميل"، كان الرجال المثقفون اليساريون "مؤمنين" بالتقدم الحتمي، بالثورة، وإلى ما هنالك من قضايا مرتبطة بهما، ومن بينها قضايا تحرر المرأة... وكان هذا الإيمان يأخذ أحلى مداه في الكلام المعسول، المحفوظ عن ظهر قلب. لكن أولئك الرجال، وهم من النخبة المتعلمة، لم يتمكّنوا من ترجمة هذه الأفكار الثورية في حياتهم المعيوشة. حتى الشجعان من بينهم، الذين حاولوا تجسيد هذه "المشاركة بالتحرر"، عبر الخوض في تجارب "ريادية"، لم يصمدوا طويلاً، وعادوا تقهقراً، وبسرعة قياسية، إلى تبنّي سلوك أجدادهم، بغلافات رقيقة، بالكاد تغطي إزدواجيتهم الصارخة، بين ما يعلنون، وبأجمل وأعقد التعبيرات، وبين ما يفعلون، أو يتصرفون، أو ينكصون.

هذه "العلّة" لم تَعد تقتصر على نخبنا المثقفة التقدمية. الإزدواجية بين القول الإيجابي بإزاء النساء، وبين الفعل السلبي، بل العنيف ضدهن، انتشرت وسط العامة، بين المواطنين البسطاء، ذوي التعليم والثقافة المحدودين، وضعف التأهيل المهني. ففي كتاب للباحثة عزة شرارة بيضون "العنف الأسري. رجال يتكلمون" (منشورات أبعاد. 2016)، أعطي الكلام لرجال ضربوا زوجاتهم، وخضعوا لدورات تأهيل ضد العنف بقرار من القاضي، وبإشراف منظمة "أبعاد" النسوية. جميعهم ينفون أن يكونوا قد تعرّضوا بالضرب لزوجاتهم. جميعهم يؤكدون على إحترامهم للمرأة، ونفورهم من العنف ضدها، وتقديرهم ل"تطورها"، وغالبيتهم "داعم لقضايا المرأة". ولكنهم في الوقت ذاته يستنكرون "قوة" زوجاتهم، وسهولة تركهن للبيت عند تعرّضهن للعنف، ودعم أهلهن لهن... حتى ان الباحثة تستغرب هذا التناقض، وتحيله إلى حاجة أولئك الرجال، العالمين بأن الباحثة التي تستجوبهم والمنظمة المشرفة على هذا الاستجواب هما من المدافعات عن حقوق المرأة، وبأنهم ربما يجيبون بعبارات "الصواب السياسي"، (politically correct)، كي لا يخرجوا عن المقبول من الكلام.

ما يعني ان خطاب النسوية صار مهيمناً، أو على الأقل مهيمناً في بعض المجالات المهمة، مثل القانون والقضاء المدني ومحاكمه المختصة بشؤون العلاقة بين الجنسين. ولكن، في أوضاع أخرى، في جلسة رجالية محْضة، لا يحتاج المتحلّقون حول أنفسهم إلى أنيق الكلام، ربما يتنافسون حول العبارت المنحطة ضد النساء؛ أو العبارات الأكثر فجوراً وإستباحة لحرمة أجسادهن..وهم بذلك يعيشون حالات التشابه والتناغم مع زعماء طوائفهم الذين ينشدون ليل نهار أنغاماً ضد الطائفية والمذهبية، فيما هم غارقون حتى أذنيهم في أوحال رذائلهما السياسية. الإزدواجية بين القول والفعل، بل بين القول والقول... هي ثقافة يومية، هي طريقة للدفاع عن المصالح، هي الإعتياد على الكذب الضروري، هي طريق السلامة الإجتماعية، أو "الذكاء" الإجتماعي...

لكن في ما يخص الرجال، هناك شيئ مختلف، ربما يكون جوهرياً؛ ان الرجال هم فعلاً ضائعون بين خطاب صار فوقياً وعادياً ومتداولاً، ينصر المرأة، وبين دواخل عميقة ما زالت على قِدَمها، ولم تفلح كل التغيرات الحاصلة في ثنيه عنها، أو في تصور، أو صياغة بديل آخر لها. ضعْ نفسك مكان رجل: ألن تكون مذهولاً من سرعة هذا التطور، ألن ترتبك جيناتكَ وأعماقكَ وهرموناتكَ من بروز منافسات لكَ على صُعد شتى، تتوسّع يوماً بعد آخر؟ حسناً، إذا كانت لهذه الثورة مدلولات لغوية صارت هي السائدة، ما هي المرتكزات الأخرى، العملية،  التي يمكنها ان تقنع الرجل بالتبدّل؟ وهل يكون التبدّل بالوتيرة نفسها التي تعتمدها حركة صعود النساء ومنافستهن للرجال؟

أزعم بأنه خلف هذه الإزدواجية بالذات، هناك جرح نرجسي رجالي، ينغرس فيه سكين حاد كلما ذكر انتصار من "انتصارات" المرأة. يكفي ان تُرمى الذكورة يوميا في براثن التخلف والجهل والإستقواء، لتقع ذكورة الرجال في حيرة من أمرها. وتكون الإزدواجية بين القول والفعل أسهل السُبل لتجنّب الغضب النسائي، أو النسوي؛ فقط تجنُّب، من دون الغوص في قاع الحيرة والجرح الرجاليَين.

النسوية كانت ثورة في التاريخ. ولكن نظراً لطبيعتها الخاصة، وخلافاً لما تظنه غالبية النسويات، كانت وتيرتها أسرع من كل الثورات. لم يتسنَ للرجال في هذه الأثناء فرصة تطوير وإيجاد ذكورة بديلة، أو رجولة بديلة. الوقت الذي داهمهم أوقعهم في معْمعة الإزدواجية وغيرها من الإضطرابات الذهنية، وربما العاطفية أيضاً. هم بحاجة للوقت، كما يحصل مع جميع المتضررين من الثورات، وهم غير مرشحين للإبادة، ولا يمكن أن يكونوا. ولكن هذا الوقت ليس بدوره أبدياً، لأنه في هذه الأثناء يمكن للردّة المعادية للنساء ان تأخذ مداها، فيما النسوية عاجزة عن تجاوز خطابها الأول، وعاجزة عن وصف المظلومية الرجالية الجديدة، وهي الذريعة الأقوى لإعادة النساء إلى زمن الحريم.