اسرائيل تغرق

حسين عبد الحسين
الجمعة   2016/12/30
في السنوات السابقة للربيع العربي، كان العالم يتندر بقياس المدة التي امضاها رؤساء العرب مقارنة بنظرائهم الاميركيين. مثلا، عاصر العقيد اللليبي الراحل معمر القذافي ثمانية رؤساء اميركيين هم نيكسون وفورد وكارتر وريغان وبوش الاب وكلينتون وبوش الابن واوباما، وعاصر الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد سبعة منهم من نيكسون الى بوش الابن، والرئيس المصري السابق حسني مبارك تزامن حكمه مع حكم خمسة رؤساء اميركيين من ريغان الى أوباما. 
اليوم، يحمل لقب أطول حاكم في الشرق الاوسط رئيس حكومة “الديموقراطية الوحيدة”، بنيامين نتنياهو، الذي تزعم اسرائيل للمرة الاولى في صيف العام ١٩٩٦، والمرة الثانية في العام ٢٠٠٩ وحتى اليوم، ليصبح صاحب ثاني أطول رئاسة بعد المؤسس دايفيد بن غوريون. واذا ما اتم نتنياهو ولايته الحالية، يصبح صاحب اطول فترة حكم في التاريخ الاسرائيلي.
رئاسة نتيناهو لحكومة اسرائيل، والتي تبدو اليوم رئاسة “الى الأبد”، تشي بالضعف الذي بدأ يدب في الجسد الاسرائيلي، وهو الضعف الذي ينتشر اليوم في معظم ديموقراطيات العالم، وفي طليعتها الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا، حيث صارت تطغى الشعبوية، وحيث صار القادة يعمدون الى بث خطابات تحريضية، للاستيلاء على الحكم، ثم التمسك به. 
اسلوب الحكم بالتحريض في الديموقراطيات صار يتطابق مع خطاب الكراهية في الديكتاتوريات، مثل في روسيا وسوريا ومصر، حيث تخلو برامج الحكم من الوعود بالازدهار والبحبوحة، وتنحصر بوعود مكافحة “الارهاب”، الحقيقي منه والمتخيل. 
لكن الحكم عن طريق التحريض مازال تجربة يافعة، خصوصا في الحكومات الاكثر تمرساً في الديموقراطية، فقادة التحريض لم يحصدوا حتى اليوم شعبية تذكر، وهم ان اقتنصوا الحكم، فهم فعلوا ذلك بالصدفة او عن طريق خلل دستوري، مثل حالة رئيس اميركا المنتخب دونالد ترامب، الذي مازالت شعبيته — داخل الولايات المتحدة وحول العالم — متهالكة، حتى قبل دخوله الحكم.
ولاخفاء هذه الشعبية المتهالكة، يلجأ الحكام الى المزيد من التشدد والتحريض، كما في تكرار ترامب حديثه عن نيته اقامة قاعدة باسماء مسلمي أميركا، وهي وعود يبدو تطبيقها شبه مستحيل عمليا، ولكنها وعود تحافظ على التأييد الشعبي لترامب بين المتطرفين الاميركيين.
وكما في أميركا، كذلك في اسرائيل، يلجأ نتنياهو الى التحريض عن طريق إمعانه في انشاء وحدات سكنية في اراضي فلسطين، واقراره خطط بناء وحدات جديدة، وهي سياسة — بعيدا عن شعبويتها وهدف حصدها جمهور اليمين الاسرائيلي المتطرف — غامضة ولا اهمية استراتيجية لها، وتكسب اسرائيل بسبب هذه السياسات اعداء اكثر بكثير من الاصدقاء، كما بدا جليا في قرار مجلس الأمن 2334، الذي حرّم بناء الحكومة الاسرائيلية مستوطنات في الاراضي فلسطينية، ووصفها عقبة تجاه تحقيق السلام.
لكن نتنياهو، كما ترامب، يعيش سياسيا على الغضب، وهو بدلا من ان يسعى لاقناع العالم ان اسرائيل تسعى لسلام يرفضه العرب، على ما دأبت اسرائيل فعله منذ تأسيسها، خاض رئيس الحكومة الاسرائيلي في فورة غضب ضد المجتمع الدولي، وتمسك بتعليلات قد تبدو للاسرائيليين مقنعة، ولكنها للعالم لا منطقية، مثل القول ان تحريم المستوطنات يعرقل السلام، وتكرار ان الاستيطان ليس عائقا امام السلام لأنه يمكن تفكيك المستوطنات على وجه السرعة في حال التوصل لاتفاقية سلام، وهو ما يطرح التالي على نتنياهو: اذا ما كان تفكيك المستوطنات بهذه السهولة، فلا شك ان اصدار مجلس الأمن قرارا معاكسا للقرار 2334 عملية اسهل من التفكيك.
نتنياهو يعيش في عالم اوهام اليمين الاسرائيلي. يعتقد ان قرارا من الكنيست كاف لتثبيت ملكية اسرائيل لهضبة الجولان، التي يسميها العالم بأجمعه الجولان السوري المحتل. ويعتقد متطرفو اسرائيل ان العالم يصدق البهلوانيات الكلامية حول “اراض عربية محتلة”، وان الاراضي الفلسطينية مازالت “متنازعاً عليها”.
حتى صحيفة “نيويورك تايمز” لم تدن قرار مجلس الأمن بعد صدوره. اما افتتاحية “واشنطن بوست”، فادانته بخجل، وادانت اسرائيل في المقالة نفسها. لم تعد أميركا في الظلمة، ولم يعد توماس فريدمان صديقا لاسرائيل من دون حساب. حتى اعتى مسؤولي ايباك، من امثال مديرها السابق توم داين والناطق السابق باسم اللوبي ام جاي روزنبرغ، انقلبوا ضد هذا اللوبي الاسرائيلي.
اسرائيل خسرت اكثر من نصف أميركا، بخسارتها الديموقراطيين، وخسارتها نصف الجمهوريين ممن يصفون انفسهم بـ “الاميركيين اولا” ويعيرون اصدقاء اسرائيل على انهم مواطنون اميركيون ولكنهم في الواقع “اسرائيليون اولا”. كذلك خسرت اسرائيل حفنة من الاصدقاء الدوليين القلائل الذين كانت تتمتع بهم.
الرواية الاسرائيلية حول فلسطين تتهاوى. العالم يتمسك بحل دولتين، والعالم يعرف ان الاراضي الفلسطينية ليست متنازعاً عليها، والعالم يعرف ان الركون لنصوص الهية في النزاعات السياسية، وخصوصا الحدودية، صار امراً معيباً. 
اسرائيل تغرق سياسيا حول العالم. وحده نتنياهو يتمسك بأوهام اليمين الاسرائيلي حتى يحافظ على منصبه.