عن صديقي العراقي وذاكرته

حسين عبد الحسين
الخميس   2015/07/23

لي صديق تزاملت واياه في العمل ثلاث سنوات كاملة في وسيلة اعلامية كانت مخصصة للشأن العراقي. كان يروي لي عن المآسي التي تسبب بها نظام الرئيس الراحل صدام حسين له ولعائلته. قال انه كان عائدا يوما من الكلية قبيل بدء الحرب العراقية مع ايران، وقبل وصوله بيته، هرع اليه واحد من جيرانه ليقول له ان المخابرات تبحث عنه كونه من التابعية.

ويحمل العراقيون حتى اليوم "شهادة جنسية" غير بطاقة الهوية، دونت حكوماتهم المتعاقبة على الشهادات جذورهم تحت خانة "تابعية"، فبينهم العثماني والكردي والهندي والايراني. وعلى الرغم من ان هذه الجذور تعود لأكثر من مئة سنة احيانا، الا انها ظلّت في الوثائق الثبوتية حتى اليوم. 

وعرب العراق في غالبيتهم من التابعية العثمانية في شهاداتهم. هكذا، مع بدء الحرب مع ايران، اعتقلت اجهزة الامن العراقية كل من اشارت تابعيتهم الى انهم من جذور ايرانية، ورمتهم على الحدود مع ايران بتهمة العمالة، ومنعتهم من العودة، وصار يعرف هؤلاء بالعامية على انهم من "التبعية".

فرّ صاحبي من قبضة الأمن البعثي قبل ان يعثروا عليه، ووصل ايران على قدميه، لكن أجهزة الأمن العراقية اعتقلت أخاه ووالدته، وعذبتهما، وقتلت أخاه بدموية امام أعين الوالدة. وكعراقيين كثيرين غيره، عاش صديقي في إيران في بادئ الأمر، وكغيره -- من امثال رئيسي الحكومة السابقين ابراهيم الجعفري ونوري المالكي -- لم يتحمل العراقيون الايرانيين وتسلطهم، فغادروا طهران الى لندن ودمشق وبيروت وبراغ وغيرها.

ومع قرع أميركا جورج بوش طبول الحرب على العراق في العام 2003، وعلى الرغم من ان ايران كانت اوعزت لمسؤوليها وحلفائها بمعارضة الحرب، فوقف بعضهم في بيروت يدعو لطائف عراقي بين صدام ومعارضيه على غرار اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية اللبنانية، الا ان هؤلاء العراقيين أيدوا الحرب الاميركية تماما، وانخرطوا في صفوفها.

صبيحة اعدام صدام، كان صديقي يقفز فرحا، حتى ان وسيلتنا الاعلامية حققت سبقا صحافيا لانها اعلنت إعدام صدام قبل ان يتم شنقه فعليا. يومذاك، افترقت مع صديقي. قلت له انه لا يمكن اقامة عراق جديد على دماء جديدة، وان فتح صفحة جديدة يتطلب العفو عمّا مضى والمصالحة. لكن صديقي خالفني. قال ان القوة هي الحل الوحيد لمشاكل منطقة الشرق الاوسط، وان الصفحة الجديدة تكمن في ان يشفي غليله هو ومن عانوا مثله في زمن صدام. طبعا عاد صديقي الى بغداد، وتبوأ ارفع المناصب الحكومية بمعية اميركا ودباباتها. 

ومع انطلاق الحرب العراقية - الدولية على تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام" (داعش)، بدا ان صديقي مازال متمسكا بالقوة عنوانا للحلول، ونشر مقالات اشار فيها الى التماهي بين بعث صدام وداعش، والى ضرورة استمرار المعركة مع العدو نفسه الذي لا يفهم الا لغة العنف.

الاسبوع الماضي، قرأت مجموعة افتتاحيات بقلم صديقي واصدقاء آخرين ممن هللوا للقوة الاميركية يوم اقتلعت صدام ونظامه. أجمع اصدقائي هؤلاء على الاشادة بانجاز توقيع اتفاقية نووية مع ايران، وكتب صديقي في عموده ان الاتفاقية النووية اثبتت ان لا حلول تأتي بالقوة، وان الحوار والديبلوماسية الاميركية مع طهران هي الحل الوحيد لمستقبل أفضل.

طبعا انا أعرف ان صديقي لا يكن اعجابا للايرانيين ولا لنظامهم، مع انه عاش في طهران ويتكلم ويقرأ ويكتب الفارسية بطلاقة. لكن يبدو ان للضرورات احكام، ويبدو ان مجاراة الأقوى في بغداد -- في هذه الحالة ايران ونظامها -- واجبة.

"يا أهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق ومساوئ الاخلاق"، قالها الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليا على البلاد قبل 13 قرنا، وقضى عراقيون من امثالي سنين طويلة نكتب عكس ذلك، ومازلت آمل اننا سنكون يوما على حق.