اليمن فيتنام إيران

أحمد مغربي
الأربعاء   2015/03/04

حدث ذلك قبلاً، أيام عبدالناصر. حدث ذلك، وحوّل المشروع الناصري الضخم، بمعطياته وتناقضاته، إلى تخبّط هائل في مستنقع اليمن. وبدلاً من أن يشكّل اقتراب ناصر من النفط وثروته الحسّاسة، مع ما يحمل ذلك من وعد بتغيير الخريطة السياسية عربياً والتوازنات الدولية، نصراً لمشروعه السياسي، تحول اليمن فخّاً لمشروع القومية العربية، حوّله إلى انقسام وتفتيت عربي، وهاوية ناصرية مأساوية.

وحينها، في 26 أيلول 1962، توقفت ثلاث دبابات، قيل أن إحداها أصيبت بعطب، أمام مقر الإمام محمد البدر حميد الدين في صنعاء. ثم أصدر المشير عبد الله السلال، البيان الأول، الذي أدخل اليمن إلى عصر جمهوريات العسكر العربيّة. نجح الإنقلاب. وفشل مشروع تحوّل مصر الناصرية إلى قوّة إقليميّة حاسمة. وبعدها، جاءت هزيمة حزيران 1967، فدُحِر المشروع الناصري كليّاً.

وللتاريخ سخريته المُرّة. فمع استيلاء الحوثيين على صنعاء، بدت القوّة الإقليمية التي تدعمهم (إيران)، وكأنها تستعيد ملامح أساسيّة من تجربة ناصر في اليمن. كما يصح الحديث عن سخرية التاريخ في أن رافعة النفوذ لمشروع القوة الإقليمية الإيرانية، هم الحوثيون (ينتمون إلى المذهب الزيديّ العشري)، وهم الكتلة عينها التي قاومت مشروع ناصر القومي.

كذلك، يتّكئ مقاومو مشروع القوة الإقليميّة، على السعودية... مجدداً. المفارقة أن السعودية دعمت حكم الزيديين في اليمن لمواجهة ناصر، لكنها الآن تدعم الكتل المناهضة للزيديين كي تواجه الاقتراب الاستراتيجي الإيراني من حدودها فائقة الحساسيّة في اليمن! كأن البنادق نُقِلَت من كتف إلى كتف، وهو تغيير  ليس عصيّاً على نصف قرن يفصل بين مشروعي ناصر (ببُعده القومي الذي ينسبه تفكير الطوائف إلى السنّة)، وإيران في مرحلة الجمهورية الخمينية التي تنجح بسهولة في استقطاب جمهور شيعي واسع، مع التحفّظ على تسمية مشروعها بالـ"شيعي"، نظراً لما يحمله الوصف من مذهبيّة، بل عنصرية دينيّة.

الهرب من صنعاء
في ستينات القرن الماضي، هرب الإمام البدر من صنعاء، التي استولى عليها المشير الناصري. ويستطيع هواة المقارنات السريعة تشبيه ذلك بهروب الرئيس عبد ربه منصور هادي من العاصمة عينها.

وكما يحدث حاضراً، تلقّفت السعودية، بسرعة، الإمام البدر، الهارب من الانقلاب الناصري في ستينات القرن الماضي، مع كل الحذر من المقارنات والتشبيهات عند مقاربة السياسة والتاريخ. وحينها، دعمت الولايات المتحدّة، الإمام البدر، بصورة تعكس تناقضات الحرب الباردة آنذاك وصراعاتها المريرة. وفي 2015، تستمر أميركا في التنسيق مع من استولى على صنعاء، تحت سقف الحرب على إرهاب "القاعدة"، ما يعبّر عن صراعات وتوازنات العقد الثاني من القرن الـ21.

وفي العام 1962، أدّى نجاح الانقلاب إلى تحويل اليمن ساحة استنزاف عسكري (أو نوعاً من فيتنام) لمشروع القوة الإقليمية الناصري. واستطراداً، من المستطاع الحديث إلى ما لانهاية عن تخلّف الإمام البدر وحكمه، وعن الفارق الحضاري بين الحداثة الناصرية وتخلّف حكم آل حميد الدين، لكن ذلك كله لم ينقذ التقرّب الناصري الاستراتيجي من ثروة النفط العربي، مع كل ما تحمله من إمكانات ودلالات وآفاق.

"الإخوان": صنع الفارق أو السقوط
بين 1962 و2015، جرت مياه لا حصر لها تحت جسور الشعوب والسياسة والثقافة والاستراتيجيا وغيرها. لذا، حملت الكلمات السابقة مقارنات ضمن تحفّظ شديد، كي لا تسقط في فخ سهولة التشبيه بالكلمات وصعوبة إيجاد البراهين عليه بالوقائع.

لنترك التشبيه. في اليمن حاضراً، تبدو كلمة السر فعليّاً متجسّدة في "الإخوان المسلمين"، أو بالأحرى حزب "التجمّع اليمني للإصلاح". ولا ينحصر صعود أهمية "الإخوان المسلمين" في اليمن، في الخريطة المذهبيّة وحدها، بمعنى كونه حزباً ممتداً بين سنّة اليمن أساساً. بل هناك أشياء أخرى، وفي مقدّمتها وحدة اليمن والتوازن الإقليمي حول اليمن.

فعلى رغم إصرارهم بالكلمات على وحدة اليمن، هناك خطورة فعليّة في أن مشروع الحوثي يحتمل تقسيم اليمن. إذ يسيطر حاضراً على شمال البلاد، وهي الشطر الذي حكمه الزيديون أيام حكم آل حميد الدين، مع الإشارة إلى أن سلطة الزيديين شملت دوماً قبائل وكتلاً سنّية في الشمال.

وإذا تعقدّت الأمور، ما الذي يمنع الحوثي من الاستقرار شمالاً، وهو أمر يضمن نفوذاً استراتيجيّاً إيرانيّاً على "باب المندب"، يتكامل مع وجودها القوي في "مضيق هرمز"، ثم الخوض في نزاع مديد مع الجنوب؟ ألا يمكن أن يتكامل ذلك مع سعي قوى إقليمية، خصوصاً دول الخليج العربي، إلى جرّ إيران عبر حلفائها، إلى صراع مديد في اليمن، يكون شبيهاً بدرجة أو بأخرى، باستدراج الناصرية إلى نزاع مديد في ذلك البلد عينه؟

بقول آخر، إذا لم يكن سعي الحوثي إلى الحفاظ على وحدة اليمن، شعباً وأرضاً ودولة، جديّاً، بمعنى إعطائه الأولوية استراتيجياً وسياسياً، تكون سيطرة الحوثي على صنعاء والشمال، مدخلاً لتحويل اليمن إلى "فيتنام إيران". وربما وُجِد في إيران أيضاً مَن يسقط في الفخ عينه، بمعنى أن يعتبر أن حرباً على حدود دول الخليج، خصوصاً السعودية، هي وسيلة للضغط استراتيجيّاً على تلك الدول. في تلك الحال، يسقط اليمن في هاوية مزدوجة من الحرب الإقليمية والتناحر الداخلي.

في المقابل، إذا أعطى الحوثي أولوية فعليّة للوحدة اليمنيّة، فلا مدخل له لضمان ذلك الأمر سوى التوصل إلى تسوية مع "الإخوان" في اليمن. في لغة مذهبيّة، يتمدّد "الإصلاح" في الكتل الشافعية والمالكية في شمال اليمن وحنوبه، ما يجعله مخرجاً من المذهبية والتقسيم سويّة.

ويبدو الظرف مؤاتيّاً لصلح حوثي مع "الإخوان" بسبب التردي في العلاقة بين "الإخوان" والسعودية، لكنه أمر قابل للتبدّل، خصوصاً مع التغيير الحالي في السعودية. هل يكون التقرّب السعودي من تركيا وقطر مدخلاً لذلك التغيير؟ في تلك الحال، يختنق المشروع الحوثي في هوامشه، بل يندفع إلى "فيتنامه" المرتسمة في الأفق.

وبديهي أن الوضع في مصر يلقي بظلال كثيفة على الصورة في اليمن، وكذلك الحال بالنسبة إلى ثورة سورية أيضاً، وإرهاب "القاعدة" و"داعش"، وهي أمور تفرض كلاماً عن البُعد الدولي للخريطة اليمنيّة.