عمر عزيز: الموت بعد التعذيب

ياسين الحاج صالح
الثلاثاء   2013/02/19
 
خسر عمر مدخراته في مضاربة مالية خرقاء شارك فيها في تسعينات القرن الماضي، فكان أن اضطر إلى العمل في السعودية شيئا لم أفهمه رغم شرحه أكثر من مرة. شيء يجمع بين الإدارة والتخطيط والكمبيوتر ووضع الميزانية. لا مهرب من ذلك، لديه أسرة يعيلها، شاب وبنات ثلاث هم اليوم في عمر الجامعات والتخرج منها.  
يتصل يوم وصوله إلى دمشق، ونتواعد للقاء بعد يوم أو يومين في مقهى الروضة. 
أليف أغامين وباليبار وجيجك، وفوكو، كان لدى عمر حلم: الديمقراطية المباشرة، وأسف: أنه لا يكاد يعرف شخصيا كثيرين من المشتغلين في الشؤون العامة في بلده، ومشكلة: قلما يتمكن من شرح أفكاره في النقاش الشفهي، وقلما يكتب أيضا. تشعر أن ما يقوله مهم لا يشبه قول غيره، لكنه يفلت منك بصورة ما. يفلت مني على الأقل. 
بعد إلحاح، كتب عمر في أواخر عام 2008 مقالة مهمة في "السفير الثقافي" بعنوان: "حالة الاستثناء، القانون، والتوق إلى الحياة". توافق على رؤيته أو تتردد حيالها، لكن فيها أكسجين نقي 100%. هذا أيضا هو الشعور الذي يعطيه عمر لمن يعرفه: النظافة والنقاء وفرط النزاهة الشخصية... وغير قليل من الخراقة. مزيج نادر قلما تجد له شبيها.  
عمر هو صاحب ورقة متميزة جدا عن "المجالس المحلية"، رأى فيها أن المجالس شكل حضور الثورة في الحياة اليومية للثائرين، وإطار للحياة وليس للسياسة وحدها. "المجلس المحلي"، يقول أبو كمال، "تكوين اجتماعي ثوري لإدارة حياة البشر اليومية"، وهو "مجموعة من الوجوه الاجتماعية الفاعلة، يتم انتخابهم من أهالي البلدة أو المدينة (...) ويهدف أساسا لتسيير الحياة اليومية للمواطنين". ولعله أقرب إلى مقاصد عمر القول إنه المجالس غاية بحد ذاتها، وأنها تجسيد لفكرة الديمقراطية المباشرة التي كان على ولاء عميق لها. والفكرة تستأنف تقليدا عريقا في التفكير اليساري، تميزه عن يسار منحط، سوري وعربي، وعن مزاج ليبرالي يجد نفسه في كل حال قريبا من نظم الطغيان القائمة.    
منذ بضع سنوات عمل عمر بجهد للتعويض عن قلة تعرفه على الوجوه الأكثر حياة في المجتمع السوري المعاصر. كانت لديه غريزة صحيحة جدا في هذا الشأن، يميز جيدا أين الحياة وأين الموت، أين المقاومة و"التوسعة" والفرح، وأين الاستسلام والضيق والاختناق. كانت له تجربة تعرُّف محبطة جدا في تسعينات القرن الماضي، لم أكن أوفره من السخرية حين تأتي سيرتها. يضحك بخجل، ويلتمس لنفسه الأعذار، ويحتقر بقوة. 
لم ألتق عمر بعد الثورة. ربما مدفوعا بشعور بالذنب لكونه كان خارج البلد عمليا طوال عقود، عمل عمر على الانخراط العملي في الثورة ومحاولة التأثير المباشر، والاتصال والتعاون مع شباب ناشطين على الأرض. كان خياري عكس ذلك تماما: لم أحاول أي شكل من التأثير المباشر. 
عمر المحب للحياة، والهش في معالجة مشكلاتها ومشكلاته معها، والرجل الذي جعل من مفهوم الحياة صلة وصله بالسياسة والناس من حوله، هذا الناشط البيوسياسي جعل من الثورة تجربته المؤسسة على نحو ما قد يفعل شاب في العشرين. كأنما كان يستعيد شبابه الشخصي من وراء ثلاثة عقود أو أكثر.  
لكن من يفعل هذا يمت أو يجازف بالموت في سورية المتمردة، المكافحة لاستعادة حياتها وزمام أمرها و... شبابها. 
عمر مات. خذله قلبه في سجن عدرا الذي كان أحيل إليه بعد نحو ثلاثة شهور من الاعتقال عند جهاز الأمن الجوي، برئاسة القاتل المسعور جميل حسن.  
لم يمت تحت التعذيب. مات بعد التعذيب. 
- هل هناك فرق؟
- بلى، إنه تعريف مساحة الحرية المتاحة للسوريين في "سورية الأسد".