يوم ربيعي مشمس..في مدينة تركلني

بتول يزبك
السبت   2023/06/10
اللوحة للفنانة اللبنانية ليلى داغر
في بعلبك العام 2020
أدخل غرفة المعيشية بخطواتٍ متثاقلة، أقف عند عتبتها متفحصةً الغرفة الغاصة بالزوار بتؤدةٍ وحذر. تدريجيًا، تغرق الغرفة في ضوءٍ ساطع يكاد يكون براقًا ولامعًا. أتهالك على أقرب كنبة للباب، أقرب ما يمكن للهرب من تلك الغرفة. أطياف سوداء بدأت تتكشف مع اضمحلال الغباشة في عينيّ وتأقلمهما مع الضوء السّاطع: أقارب، فناجين قهوة، منافض سجائر مملوءة بالأعقاب، النساء جالسات قرب الباب والرجال يتوسطون الغرفة مستغرقين في جدل سياسيّ مستعر، لهجةٌ بعلبكية جهورية، جمهورٌ من النظرات المتفرسة. حتمًا إنها "الصبحيّة" التّي كان أهل الضيعة بانتظارها، محور النميمة الجديدة. ابتسم.

بتلقائية أخرج علبة السجائر من جيبي. بغتةً يطرق سمعي صوتٌ خافت، مستنكر: "صرتي بتدخني كمان؟". أبحث عن مصدر الصوت… هناك في زاوية الغرفة، قبالتي مباشرةً: فمٌ مزموم، وجهٌ مجعد مليء بالمرارة، وعينان بنّيتان صغيرتان مغلفتان بشيء من الامتعاض. جدتي لوالدي، العجوز السبعينيّة الضئيلة، حادّة الطباع. جدّتي هي مصدر الصوت الذي قرر تعكير صفو مزاجي، صباح يوم أحد ربيعيٍّ مشمس، وأول مَن قرر الخوض في الحديث المشؤوم والمتوقع.

أبتسم متهكمة، مكتفية بإشعال السّيجارة، فيما طفقت هي تلوي قسمات وجهها، محركةً شفتيها بشيء غير مفهوم. أبادرها بالسؤال: "كيف حالك؟".. لحظات ثم انطلق النحيب، خشناً، برّيّاً، حارقاً: "يا ستّي قسمًا سأموت بسببك، عند زيارتك الضيعة، ضعي منديلاً على رأسك كما كنت تفعلين في السّابق! جدّك ساخط وسيموت قهرًا، أيرضيكِ العار الذي لحق بنا؟ ضعي منديلاً وزوريه والتمسي منه الصفح، وإن لم تقومي بذلك، فلتكفّي عن زيارة بعلبك، نحن متدينون يا ستّي، لا نصبغ شعرنا بالأحمر الفاقع، بل نحجبه، كفانا مشاكل". طفرت عيناها بالدموع، وصمتَت وصمتُّ معها.

في بيروت العام 2023
ترسل لي صديقتي نصًّا صغيرًا مذيلاً برابط، افتح الرابط المُرسَل على مضض لأقرأ الخبر: "صبيّة طُردت من الشاطئ العام في صيدا بسبب ارتدائها المايوه". أجفل لثوانٍ. بارتباكٍ جنونيّ، أبحث عن اسم "الصبيّة المطرودة"، عن أي خيّطٍ للخبر، عن سبب طردها، عن هويتها، لا شيء.. وما هي إلا ساعات، حتّى ظهرت "ميساء" بفيديو لا يتجاوز الدقيقتين أعدّته إحدى المنصات الإلكترونيّة، راويةً ما جرى معها. يجتاحني الغضب الذي بات اعتيادياً شبه روتينياً في خضم مثل هذه التفاصيل. وفي آخر الفيديو، تظهر ميساء مقاومةً البكاء، بعتبٍ وخيبة تتساءل: "هل يُعقل أن أُطرد من مدينتي؟… حرقوها للمدينة".

لحظة سمعت كلمتَي "حرقوها للمدينة" فقدتُ السّيطرة على غامضٍ ما في داخلي، غضبٌ وحسرة، انفجرا بعد كبتٍ طويل. أربع سنوات ونيف مرّت على خلعي الحجاب، أربع سنوات ونيف وأنا أكظم غيظي وغضبي من المتسائلين والمستنكرين والطاردين، ومن زيارة مدينتي خلسةً. استحضر مشهد ميساء المتحسرة والغاضبة والمعاتبة، وأقول في سريّ مجدّدًا: "حرقوها للمدينة".

تذكرت لحظتها، جلوسي في مصيف أسرتي، شمالي مدينة بعلبك، صباح أحدٍ ربيعيٍّ مشمس، تعتمل في رأسي السّيناريوهات، بينما جلس قرابة عشرين شخصًا يحدقون فيّ، مسجلين كل نأمةٍ وحركة قد تبدر مني.

أذكر الغضب والحسرة، الشعورَين الوحيدَين اللذين تملّكاني لحظتها، فضلاً عن الخدَر. أتصور نفسي أضحك وأشتم، فيما أقاوم الرغبة الملّحة والمحرجة للبكاء، خارجةً من الغرفة بحاضريها المبهوتين، ومن المنزل ومن المدينة، فيما يتذبذب بندول شعوري بين قطبين متعاكسين: من نقطة الخوف إلى نقطة الاستشاطة غضبًا حدّ الانفجار..

طوال أربع سنواتٍ ونيف، حاولت جاهدةً أن أخفي الارتباك والتوتر المزمنين، كلما وجدت نفسي أتقدم للتعرف إلى الغرباء، كاشفةً هويتي الحقيقية، إذ غالبًا ما تفضي محاولاتي الوجلة هذه، إلى تأكيدٍ مستمر عن مدى اغترابي الكليّ عن مدينتي وعتبي وحقدي الشخصيّ عليها، وإخفاقي في الانسجام مع المكان الذي أتحدر منه، وفيه هويتيّ... ذاك الذي يسمونه مسقط الرأس... مدركةً أنني سُلبت قسرًا، الانتماءَ الحقيقي لهذه المدينة (بعلبك) التّي لم تتقبل شَعري، وقيافتي، وسجائري، وكتاباتي.. ومفترضةً أن إصرار المدينة على لفظي وركلي من دائرة المنتمين إليها، هو، بما لا لبس فيه، علامة على العداء القصدي والإهانة الشخصيّة والتهجير الدؤوب. ومع تراكم هذه العداوة، فقدتُ ارتباطي بها وحاجتي للانتماء لها، باحثةً عن مدينة تحبني بلا شروط.

استحضر بيتًا من قصيدة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، يقول فيه: "لن تجد أرضًا جديدةً، لن تجد بحارًا جديدة، المدينة تتبعك، وستجول أبدًا في الشوارع ذاتها..". أتساءل، هل يتبع بحر صيدا، ميساء؟ هل تتبعني المدينة؟ هل سنجول نحن المقصيّات في شوارعها مجدّدًا؟ هل تلفظنا المدينة خارجها، أم أننا نحن الخارجات على حدودها؟ هل تضيق بنا مدننا ويخنقها شَعرنا وأجسادنا وآراؤنا؟ لماذا ميساء تحديداً؟ ولماذا أنا والأخريات تُسلب نُجرَّد من انتماءاتنا ومدننا؟