ستّ صُوَر بتوقيتَين

بتول يزبك
الثلاثاء   2023/03/28
الصورة الأولى
الليلة الفائتة لم أنم. الفكرة اللزجة التي كانت تزحف من خلايا دماغي وتختمر في إدراكي، أيقظتني قرابة الواحدة فجراً، أو منتصف الليل.
استمالتني فوضاي الفكرية للكتابة، لم أكتب، الفكرة الاعتباطية والمباغتة ذاتها، حبستني في الأريكة التي غفوت عليها سهواً، أراقب الساعة وأعد: واحد، اثنان، ثلاثة.. عشرة، كم يا ترى استغرقت من الزمن أثناء العدّ؟ أعيد مراقبة شاشة هاتفي، أمعن النظر في الساعة، ثم أمعن في لفظة "الساعة" علّني أطبق على هذا الزمن الخطي الملتوي فأسبر غوره.
عبث، لم أنَم، انتصرت عليّ كعادتها، غواية الفراغ. 

الصورة الثانية
أسمع جلبة خافتة في الغرفة القريبة، حوالة السادسة والنصف أو الخامسة والنصف فجراً. أهرع لرؤية مصدرها: أختي طالبة الشهادة المتوسطة التي خافت أن تنام فتخذلها ساعتها البيولوجية وقت الاستيقاظ، وتفوت عليها الدقائق الأولى، أو الساعة الأولى بدقائقها الأولى، من امتحان "التجربة الثالثة"، فيتحقق أسوأ كوابيسها وأفظع السيناريوهات المتخيلة: "الرسوب".
تسألني شقيقتي على عجالة رغم استلقائها الكسول على السرير، عن الساعة معي، أجيبها: "السادسة و32 دقيقة". بتؤدةٍ وقلق تسألني: "بالتوقيت الصيفي أو الشتوي؟ يهمني توقيت المدرسة الشتوي". فأجيبها على مضض: "على التوقيت الذي اختاره هاتفي طوعاً". فتسبل عينيها، شاخصةً نحو "دفتر المراجعة" باطمئنانٍ وحبور.
فارق ساعة بين الغرفة والأخرى؟ كله وارد، في هوة العبثية الكالحة هذه.

الصورة الثالثة
عند السابعة ودقيقتين، أو السادسة ودقيقتين من صباح الأمس، وقفت على ناصية الشارع بانتظار "الفان رقم 4" فيما وقفت إلى يميني صبية عشرينية بهندامٍ بسيط وقيافةٍ عصرية بانت عليها العجالة والتوتر، وتسامق إلى يساري عاملان أجنبيان، يمتشق إحداهما دلو دهان، والآخر يدخن سيجارة بانتظار "الفان".
أسوةً به، دخّنت السيجارة الأخيرة التي تبقت من ليلتي العصيبة. في انتظار "الفان". أستهلك سيجارتي على عجل، مخافة وصول "الفان" الذي تأخر حوالى نصف الساعة بعد سحقي للسيجارة بحذائي.
إلى جانبي جلست سيدة، أحسب أن عمرها يتجاوز الخمسين. تسألني بعد هنيهة: "يا بنتي قديه ساعتك؟"، أجيبها بتلقائية: "الساعة الصيفية أم الشتوية؟ سبعة و40 دقيقة، أو ستة... يلي بتختاريه". تهز رأسها بتبرم وازدراء، هاذرةً "ما عادت تفرق، ما عادت تفرق".

الصورة الرابعة
ترجلتُ من الفان أول ساحة الشهداء، وفي نيتي "التشاطر" على المتقاعدين ومباغتتهم قبل وصولهم، فأغطي التظاهرة الاحتجاجية التي ستقام في ساحة رياض الصلح تزامناً مع جلسة مجلس الوزراء باكراً، وعلى غير عادتي في التأخير، وبالتالي أكسب وقتاً إضافياً للكتابة.
الخلاء. لم أجد أحداً ولا حتى عناصر أمنية تطوق المنطقة. مهلاً! تذكرت: لا جلسة اليوم بسبب سجال "التوقيت الصيفي"، وبالتالي لا تظاهرة مطلبية. أجلد ذاكرتي المعطوبة، كيف نسيت وأنا على علم مسبق من مساء الأمس؟ ما الذي شغل بالي؟ تجيبني الفكرة اللزجة ذاتها: "الساعة".

الصورة الخامسة
جارّةً أذيال الخيبة، أتوجه إلى شقتي شرقي ساحة الشهداء، أمشي بتباطؤ وبهتان، بينما يسابقني زوجان من النشيطين، هواة الرياضة الصباحية. تركض السيدة ممشوقة القد بثيابها الرياضية الخفيفة، رامقةً ساعتها طوال المسافة التي ركضتها. أتذكر "الساعة"، فأتفقد هاتفي الذي رن صدفة: ثمانية ونصف، أو سبعة ونصف، فيما ظهر في الشاشة تنبيه من التقويم: "تظاهرة المتقاعدين بالتزامن مع انعقاد الحكومة". أشتُم التوقيت والحكومة.
شارع الجيمزة خالٍ، لا عابرين فيه سوى المتسولين بثيابهم الرثة، وهواة الرياضة بثيابهم مبهرجة الألوان. أفتح باب الشقة المعتمة، وألعن صاحب اشتراك الكهرباء الذي التزم بالقرارات الرسمية للمرة الأولى في حياته، لم يشغّل المولد بعد. فيما أتثاقل على كنبتي، أقلّب في المنشورات الفايسبوكية، مبتسمةً بصفراوية على الساخرين من التوقيت الصيفي والمناوئين له على حد سواء. والمقالات الطويلة والمشادات الكلامية التصعيدية ومقررات المؤسسات على اختلافها والتي اختلفت في ما بينها على التوقيت.

الصورة السادسة
حوالى الثالثة من ظهر الأمس، أو الثانية من ظهره، تظهر في شاشة الهاتف مقررات جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية التي عقدت حصراً للتباحث في هذا الشأن، مفادها استئناف العمل بالدوام الصيفي ليل الأربعاء–الخميس المقبل. أضحكني الخبر أكثر من موجات السخرية على التوقيت.
أيام مؤقتة عايشها سكان لبنان وسيعيشونها حتى ليل الأربعاء، مرتبكين، حيارى، مرتهنين حتى في ساعاتهم، لقرارات عبثية انبثقت في مخيلة أحدهم، فجعلها واقعاً.

الصور متناظرة الانعكاس
أستحضر قول الكاتبة الأميركية شارون سالزبورغ: "الحياة مثل المشكال المتغير باستمرار، تغيير طفيف، وجميع الأنماط تتغير".
كائن ضئيل، يتذبذب اعتباطياً بين توقيتين في إطار زمني واحد متخثر وبطيء، وعلى سيرته الملايين في هذه البقعة الضئيلة. صور متناظرة الانعكاس بألوان شاحبة، ونزعة ملحة للتشاؤم، في عدسة مشكالٍ معطوب.
أتساءل: مَن عَطب المشكال، فعطب أشكالنا وأنماطنا؟ مَن المسؤول عن كل هذا الخراب والفوضى السوريالية، والعبثية القاهرة؟ من الذي وضع مدينة في قبضة الارتياب والحيرة؟
لا أحد مداناً، صكوك البراءة توزع شمالاً، يميناً.
يتحلل الزمن، ويتكثف ويمتد كتثاؤبٍ طويل. وصلنا إلى التقاطع الحتمي، إلى عمق الثقب الأسود الخاوي والكالح، انحدار حر مستمر وأزلي في التوقيتين المؤقتين.