ليلى.. الحب والعمر المديد

نجلاء أبومرعي
الثلاثاء   2023/02/28
من الأطفال الناجين في إدلب.. الذين لا أهل ينتظرونهم، بل عمليات جراحية (غيتي)
ليلى، عمرها عشر سنوات. هذا ما يردده المنقذ في فريق "الخوذ البيضاء"، الدفاع المدني السوري، وهو يحاور فتاة لا يَصِلني صوتها واضحاً. لا أعرف ما إذا كنت أملأ فراغ انتظار إجاباتها بالأمل... أصغي بقلبي وأسمع بأذُن المنقذ، أم أني تركت المساحة عمداً لإشغالها برغبتي في التدخل.

متطفلة، عاجزة من بعيد، أرجو المنقذ الاستعجال ليباشر عمله بالمنشار الكهربائي. لا أدّعي علماً أكثر من المنقذ عن الواجب فعله، وأُطمئن قلبي بأن الوقت هو أكثر ما يدركه الشاب الذي يظهر في الفيديو أمامي، منقذاً ومُحاوراً ومُراعياً لأحوال الطقوس والأمزجة والعواطف.

خطفت قلبي ليلى التي اهتزت بها الأرض في سلقين، غربي إدلب.

فتاة في سنّها، اعتادت ربما الإجابة بتهذيب وبلا تردد، لدى سؤالها عن اسمها. كرَّره المنقذ على مسمعنا، يريد إشراكنا في المحادثة هذه، وإعلامنا بطريقة عمل "الخوذ البيضاء"... واحد من أسباب أقولها لنفسي مُفسّرةً ما أشاهد وأنا أُلهيها عن قلق يحضرني بشكل لحظي، عند مشاهدتي فيديو للحظة مضت. يعيد على مسمعنا، لغاية التصوير إذن...ربما...أو لتهدئة ليلى وربط الصلات معها قبل أن يبدأ مساراً، هو نفسه لا يعرف إلى ماذا سينتهي.

تجيب: اسمي ليلى. يتابع بسؤال آخر: كم عمرك؟ صمتٌ. وأنتظر. يردد بعدها المنقذ قائلاً: "عشر سنين، يلا شوي ومنصير عندكم ماشي؟"

لا أنين ولا صرخة... لكنه سكوتٌ قاسٍ... ورغم الثواني القليلة، يبدو لي عتيقًا في الزمن بمسافة عمر. رد عليها بسؤال مستوضحاً ما قالت، ثم عاد ليفسّر لنا، "بلّشت بالعشرة".

أصابت قلبي ليلى، بحرصها على تأكيد أنها لم تكمل عشر سنوات بعد، ليست في العاشرة تماماً...

هو عمر تتمسك ببدايته ولا تريد له أن يفلت من بين يديها، يمكن لكل شيء أن ينتظر... الصدمة، الحزن، غياب المعنى على مدى السنوات المقبلة، كل ذلك يمكن لليلى أن يأتيها متأنياً ومتمهلاً بعد أن تحسم أن عمرها لم يبدأ بعد.

لستُ مكان ليلى. لستُ في ذاك الظلام، ولستُ مَن لا تعرف ما إذا كانت ستخرج أم لا، ومَن ستلقى، وماذا؟ ذاكرتي تتحفز لا شك، تستحضر معها صدمات سابقة. وفيما أحاول إبعادها من رأسي، تكر سبحة الأسئلة في بالي عن ليلى، ولا أعرف كيف أنظمها، لكنها مدفوعة بالاعتقاد بأن ليلى ستخرج من تحت هذا الردم، وأن صوت المنشار الكهربائي لن تخض هزاته تلك الفتاة الرقيقة في العتمة. وكأن المنقذ، حينما نظَر إلى المشاهدين، إليّ، من خلال كاميرا الهاتف الجوال، التفت إلى ليلى التي أعطته الإشارة إيذاناً ببدء التنفيذ.

أسأل عمّن خسرتهم ليلى، من دون دراية منها. أحتار في الإجابات حول ما خطر في بالها الآن. ما هي الآلية التي ابتكرتها لنفسها خلال هذه الساعات، فأبقت أنفاسها تحت السيطرة؟ أي حيلة ماكرة تلك التي لجأت إليها لتتلبس الهدوء، إلى أن يحين الخروج وتسيل عند عتبته مياه ما بعد الصدمة؟

الترحال بيني وبين ليلى، وبين أسئلة كل منا، طويل ومتقلب ولا أعرف كيف أحكم سيطرتي عليه.

لم تنفع معاودتي مشاهدة الفيديو أكثر من مرة. فشل هذا التكرار للحظة مسجلة من حياة ليلى في الإجابة عن مصيرها؟! هل ستكمل عامها العاشر وتختبر بؤساً كان مخبأ لها في جوف الأرض؟ هل سينتهي عامها في بدايته، وتحفظه في ذاكرتها بعد الغياب؟ ستأخذ معها ضحكات بداية العمر، أم هلعاً لا محدوداً وشيباً زاد على عمرها أعواماً تسعين...؟

لا تحضرني إجابات تسليني عن اضطراب لا بد منه للعاجزين والغارقين في ذنب النجاة. لا يأتيني ما يبدو لي مُلحّاً. إجابة عن سؤال: هل خرجت ليلى أم لا؟

" شو صار مع ليلى؟"، راسلتُ حساب الدفاع المدني السوري في "تويتر".
ثلاثة أيام من الانتظار... وجاءني الجواب: "تم إنقاذها في اليوم نفسه". يوم لبداية أخرى من العمر بمنعطف كبير عن مستهل العاشرة.

ليلى، آمل ألا تخبئ لك الحياة أكثر مما تحتملين، وأن يأتيكِ الحب من كل صوب، وإن كان لقلبك أن ينفطر، فليكن برقّة تبقيه معافى ومُشرّعاً لهناء مُستحَقّ.