الخروج للعشاء مع السيد إنهيار

رنا قاروط
الإثنين   2022/07/25
رسوم: رنا قاروط

يُشكّل الآتي، لقطات من الواقع في قصة غير واقعية، وإسم الشخصية الأساس مستوحى من كتيبات روجر هارجرفيز، في أدب الأطفال...

وُلد السيد "انهيار شامل" في عاصمة لبنان، بيروت، عشية الاجتياح الاسرائيلي (في 6 يونيو/ حزيران 1982)، فجاء برجه الجوزاء. وبدأ وعيه الاجتماعي والسياسي يتفتح على تركيبات المدينة وخصائصها بعد انتهاء ما سُمي عرفًا بـ"حرب عون" ثم انعقاد مؤتمر الطائف من أجل وضع حدّ- إلى حدّ ما- للاقتتال في البلد العام 1989. وفي حين عايش أحداثها العامة والتاريخية حتى بداية ظهور ما عُرف في حينه بالحراك المدني العام 2015، لمع نجم "انهيار" وذاع صيته مع ثورة تشرين 2019 التي اندلعت في عهد عون (الجنرال ميشال نفسه).

فعليًا ليس "انهيار" شابًا أزعر، حتى لو كان اسمه لا يوحي بالثقة أو الأمان. بل، على العكس تمامًا، هو آدمي ولطيف. أحبّ الأغنيات الثورية خلال فترة التسعينيات فرددها بكامل حواسه، ثم راح يكفر بالواحدة تلو الأخرى منذ فجر تحرير الجنوب، إلى مساء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتوالي الاغتيالات من بعده كما يُفرَط عقد من حبات اللؤلؤ. والحق يُقال أيضًا، لم يسمعه أحدً يصرخ أو يشتُم سوى مرتين أو ثلاث طيلة عمره الشقي. حصل ذلك في المصرف، حينما ذهب لسحب راتبه الذي عادةً ما يتقضاه بالدولار، فأبت الموظفة إلا أن تدفعه له بالليرة. وربما رفع الوسطى مرتين أو ثلاث، ناحية ساحة رياض الصلح-لا ساحة الشهداء، بالتأكيد. وتلك كلها أفعال لا يجوز أن تُحسب عليه، إذ تُعد جزءاً من سيكولوجية جماهير، أكثر منها سلوكاً فردياً.

وكما كلّ الأشخاص العاديين، يُحبَط "إنهيار" ويتخبط في أفكاره، لتستوي أموره لاحقًا. إلا أنه بعد انفجار المرفأ، صارت سقطاته أعمق، وبالتالي راحت قيامته تتأخر لتعود وتتفاقم مع وقوع أي معركة في الشارع، كأحداث الطيونة مثلاً، أو مع انقطاعات كهرباء الدولة وتقنينات اشتراك المولد، لا سيما خلال ليالي الزمهرير الطويلة.

لا يخلع "انهيار" بنطلون الجينز صيفًا ولا شتاءً، منذ السن التي بدأ فيها يختار ثيابة بنفسه، فقط يلبس معه تي-شيرتات أيّام الحرّ الشديد، وكنزات الصوف الناعم (التي لا تثير حساسيته) أيّام البرد، كما جعل للخريف والربيع قمصانًا من تلك التي تأتي مع كاروهات صغيرة، تقليمات رفيعة، وأحيانًا "مونّسة"، فيرخي أكمامها في الخريف، ويطويها بعناية في الربيع، قبل أن يرتديها، كي يتمكن منها، لأنه يعيش وحيدًا.

قد يظن القارئ أني أعرف "انهيار" من قُرب ومنذ زمن. لكن، في الواقع، لا، وإني تخيلت هويته عبر استشعاري لطاقته كجارٍ لي، نسكن في المبنى نفسه، الطابق نفسه، من دون أن نتبادل سوى التحيات داخل المصعد الذي بات معطلًا مع شح الطاقة وغلاء المتوافر منها.

والأمر سيان بالنسبة إليه، إذ تعرّف إليّ عبر الذبذبات ما غيرها، داخل تاريخ وجغرافيا مشتركَين ولا يشكلان سوى زاوية ملعب من ملاعب كرة أقدام البلدان المُنتجة لخبزها ولأسلحتنا.

وصدف أن نزلنا الدرج معاً…

(1)

- "انهيار": إلى أين والليل يقترب والأمن متفلّت؟

- إلى حيث تعرفني أذهب وأعرفك تذهب عندما ينفد لدينا الغاز والماء والنت وغيرها..

- "انهيار": ليست صدفة إذن، وهذه عاداتنا. أتسمحين لي بدعوتك إلى العشاء؟

- إنها المرة الأولى التي أسمع فيها صوتك في جملة كاملة… ونعم، أقبل دعوتك، فقد حصل التغيير، رُفعت الحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة من حول المجلس النيابي وما عاد من مجد لمن يقول "لا".

- "انهيار": لكن التّغيير…

- لكني أشعر بالجوع الآن، ومن الصعب على العقل أن يفكّر عندما تكون المعدة فارغة

- "انهيار": حسنًا!

(2)

هناك، وبعد سير قصير على الأقدام...

- "الآخر": هلا فلانة؟ كيف الحال فلان؟

- هلا بك أنتَ، فأنا من سكان الدار.

- "انهيار": بخير، وأنت؟

- "الآخر": ماشي الحال. ماذا أقدّم لكما، مثل الأمس؟"

- بل أريد سندويش روستو، لو سمحت.

- "الآخر": ومنذ متى تأكلين اللحم؟!

- لقد عدت ورغبت فيه مع دخول النواب الجدد إلى البرلمان.

(3)

- "انهيار": لكن التّغيير…

- أعرف ما سيحصل الآن. ستبدأ معي نقاشاً لن ينتهي مع حلول الصباح، وأكون قد جعت وعطشت من جديد.

- "انهيار": وما دخل أكلك اللحم بنتائج الانتخابات؟

- ربما هي محاولة غير واعية مني للسير مع مجرى الريح، بدلاً من الوقوف في وجهها إلى الأبد.

(4)

- انهيار": تغيير؟

- أفكّر أنها عودة إلى واقع لا أظن أن ثمة رجوعاً منه بعد الآن، وفيه مَن يقول "لا" جهاراً وصراحةً، يُدجَّن في أحسن تقدير، يُهمَّش أو يُقتَل إذا ما تحلّى بالإصرار.

انتهت الجلسة بلا رفع سقوف، ولا تكسير جدران، ولا انسحاب أحد منا. وربما كانت لتستمر بشيء من نشوة النصر للحياة العادية، لولا هبوط الظلام الثقيل على مدينة انطفأت أنوارها، فخلت طرقها من أي دومري.