"سأصبح ممثلة!".. وأوقعَت أمي طنجرة المحشي

نسرين النقوزي
الجمعة   2022/10/28
(غيتي)
كنتُ في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. وقتها، كمعظم رفاقي، لم نكن نعرف تحديداً أي اختصاص سنختار ليصبح عملنا ومهنتنا. كنا آنذاك أبرياء، نظن أن الخطوة المنطقية بعد انتهاء دراسة الجامعة هي الوظيفة، وفي مجال دراستنا أيضاً.

كنا مخطئين، طبعاً. فكم من متخرج لم يلقَ وظيفة في مجال تخصصه، فاضطر للخضوع لأي عمل، حتى لو لم يكن يحبه أو درسه، فقط لتأمين مصاريف يومه.

نقلنا وقتها قلقنا إلى الأساتذة في المدرسة، أننا لا نعرف ماذا نحب فعلاً، وفي ماذا نبرع؟ وكيف سيكون عليه الحال بعد إتمام دراسة الجامعة، إن لم نفهم توجهنا؟

هناك طبعاً تقصير لافت في بلادنا في توجيه الطلاب، كي يختاروا فعلاً ما يناسب شخصياتهم وقدراتهم وأحلامهم. وكم من تلميذ اختار فقط ما نصحه به أهله أو أساتذته، حسب علاماته، أو حسب التقييم السطحي لأفضلية اختصاصات على أخرى.

كانت الحسبة لديهم سهلة جداً. فإن كانت علاماتك عالية في المواد العلمية، فأنت ذكي ابن ذكي، ويجب ألا تهدر عبقريتك إلا في دراسة الطب أو الهندسة. أما إذا كانت علاماتك منخفضة، فلا يهم أساساً ماذا ستختار، فكل الاختصاصات متشابهة بعد ذلك في نظر العديدين. ولا يهم! إن كنت تكتب جيداً أو ترسم، إن كانت لديك مهارات في الإقناع أو التنسيق أو في الجري مثلاً. كل هذا لا يهم. طبيب أو مهندس أو إفعل ما يحلو لك يا فالح..

كان أستاذ الفلسفة، التي ندرسها باللغة الفرنسية، استثناءً. فهو الوحيد الذي اهتم بالشرح تفصيلياً عن أهمية اختيار كل اختصاص بما يتناسب معنا كأفراد، مع رغباتنا وقدراتنا ومدارك كل طالب منا، من دون التأثر بالجوانب الخارجية، من علامات وضرورات سوق العمل، وتأثيرات الأهل وخلافه. كما أنه ذهب أبعد، كي يضيء لنا طريق الاختيار الصحيح، فحضّر لنا اختباراً نفسياً من قِسمَين: القسم الأول عبارة عن عشرين سؤالاً مبنية على دراسات نفسية واجتماعية، أسئلة متنوعة عن الأماكن التي نحب زيارتها أو كيف نفضل أن نقضي أوقاتنا، وإذا كانت تهمنا الأمور التقنية أو العلمية، وهل تهمنا معرفة أجزاء وأعضاء الجسم، وهل نحب قيادة فريق وإعطاء تعليمات وإرشادات أم لا، وغيرها من الأسئلة، لتصبح الإجابة عليها طريقاً لمعرفة ما يمكننا أن نبرع فيه، وإلى أي غاية تقودنا الطريق. والقسم الثاني كان عبارة عن صور مختلفة، وعلينا أن ندوّن ما نراه كانطباع أول.

تخيل، لدقيقة معي، لو قمتَ أنت بعمل هكذا اختبار حينما كنت في دراستك الثانوية، في أي طريق كنت ستسلك؟ وهل جربت من قبل أن يحدد مسارك اختبار، أو توجيه ما من آخرين؟

عزيزي القارئ.. إن أجبتَ بنَعَم على السؤال السابق، فأكمل معي قصتي لأنها على الأرجح ستتقاطع مع ما حدث لك. وإن كانت إجابتك لا! فاكتب قصتك مستمكلاً عني ما بدأته، ولا تلتفت للفقرات التالية.

خضعتُ للاختبار متشوّقة لأعرف إذا كان فعلاً سيكتشف ما في قلبي وعقلي من رغبة في مهنة المستقبل. ويا للعجب! ولا أبالغ فعلاً. جاءت نتيجة الاختبار لتدل فعلاً على أنه ليس اختباراً عشوائياً، إنما يرتكز فعلاً بأسئلته على قدرات التلميذ ورغباته.

عدتُ إلى البيت متحمسة كي أعلن لأهلي أخيراً قراري باختيار اختصاصي في الجامعة بعدما اقتنعتُ بنتيجة الاختبار التي تشبه شغفي وحلمي. انتظرتُ أن نجلس، العائلة كلها، حول مائدة الغذاء، وقلت بصوت عال كمَن يعلن فوزه بالجائزة الكبرى: وأخيراً، عرفتُ ماذا سأدرس في الجامعة، وقد تأكدت بعدما أجرى لنا أستاذ الفلسفة اختباراً. اتسعت عيون أهلي، نظروا نحوي، حدّقوا فيّ بدهشة مَن يطلب الإجابة سريعاً.

سأصبح ممثلة! قلتُ بصوت هادىء يملأه الفرح. نعم، نعم سأدرس التمثيل في كلية الفنون الجميلة، وأصبح ممثلة. هذا ما أكده لي أستاذي. إني سأبدع على المسرح، كممثلة كوميدية.

وقعت طنجرة المحشي من يدَي أمي، ونظرت في عينيّ مباشرة. غاضبة. لم تتفوه بكلمة.
قال أبي بثقة لا تخلو من الحدّة: لكنكِ تدرسين المواد العلمية الآن وعلاماتك عالية! يمكنك أن تدرسي الصيدلة، أو أي اختصاص يخوّلك إيجاد عمل محترم، الفنون ما بتطعمي خبز يا بنتي.
قال أبي جملته بكل هدوء، على عكس أمي التي استشاطت وصاحت: بنتي ممثلة! أعوذ بالله!
عندها، تدخل أخي الأصغر مدافعاً عني (لم أعرف إن كان مدفوعاً بتهكم أو جدّية): نعم ستمثل في أفلام محترمة، طبعاً، وليس في الأفلام المخلة بالآداب. شو فيها يا ماما؟!
وما إن أكمل جملته حتى انفجرت أمي وكأنه سكب زيتاً على شعلة: شووووو؟! كمان أفلام مخلة بالآداب؟! الله أكبر منكم، الله أكبر!

رضختُ بعدها لنقّ أمي المتواصل بالرفض، ولم أدخل كلية الفنون، ولم أدرس التمثيل. وكردّ فعل عليهما، لم أدرس الصيدلة ولا الطب ولا أي اختصاص علمي. اخترتُ الصحافة. شعرتُ أنها بين الفنون وبين الاختصاصات التي يسمونها جدية. لكني لم أحبها ولم أعمل بها أبداً، عملتُ في مجالات عديدة لا تمتّ إلى ما درسته بأي صِلة.

أما عن كَوني ممثلة تنتظر اكتشافها وصقلها، كما أخبرني الاختبار، فقد فهمت لاحقاً أن هذه مهنة لا تحتاج إلى تخصص، فقط موهبة في تشريح الحياة. فكلنا ممثلون نؤدي أدواراً محددة، على اختلافاتنا، فوق حلبة الواقع. نغيّر الأدوار والوجوه بتلقائية. الحياة أكبر معلّم.