النظام السوري المهووس بالجنس!

وليد بركسية
الخميس   2022/01/06
من سلسلة "سكر وسط"
يبدو أن نشاط فرع الجريمة المعلوماتية في وزارة الداخلية السورية لن يتوقف عند اعتقال الناشطين والصحافيين والمدنيين الذين ينتقدون الأوضاع المعيشية والاقتصادية في مناطق سيطرة النظام السوري، بل سيتمدد نحو الرقابة الفنية والوصاية الأخلاقية على السوريين، بعدما هددت "لجنة صناعة السينما والتلفزيون" بإحالة كل من ينشر أي محتوى فني في مواقع التواصل الاجتماعي من دون الحصول على رخصة إلى الفرع المذكور.

وقالت اللجنة في بيان موقع باسم نائب رئيس الاتحاد العام للمنتجين العرب ورئيس مجلس إدارة اللجنة علي غالب عنيز، أن أي محتوى سيتم نشره من تاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2022 من دون الحصول على الموافقات المطلوبة سيعتبر مخالفاً وسيتم تحريك الإدّعاء مباشرة لإحالته لفرع الجرائم المعلوماتية في إدارة الأمن الجنائي. وتضاف ذلك إلى لائحة طويلة من القوانين والقرارات التي يصدرها نظام الأسد بشأن الإنترنت في البلاد مثل "متابعة الصفحات المشبوهة"، وتظهر بوضوح نوعية السلطة الحاكمة في البلاد والتي تبدو حجرية ومتعفنة على الصعيد الفكري/الحضاري مثلما هي متوحشة وإجرامية على الصعيد الإنساني.



وتحججت اللجنة بأن القرار يأتي عملاً بأحكام المرسوم التشريعي الصادر عن الرئيس بشار الأسد رقم 17 لعام 2012 الخاص بتنظيم التواصل على الشبكة. لكن الفرق الهائل في الزمن بين المرسوم والقرار الجديد يلمح إلى تفسير مختلف في الواقع، حيث تعمل "الدولة السورية" مؤخراً على تعزيز حضورها في الفضاء الإلكتروني بعدة طرق، فيما يناقش مجلس الشعب مشروع قرار لتعديل المرسوم المذكور وإعطاء صلاحيات أوسع لفرع الجريمة الإلكترونية في البلاد.

وفي بلد أصدر قرارات بتجريم استخدام "الأيموجي" ويحجب المواقع الإلكترونية بما في ذلك المواقع الإباحية بحجة حماية المجتمع، فإن الوصاية الأخلاقية تستمر في القرار الجديد حيث أبدت اللجنة أسفها من "حالة الانحلال الأخلاقي والفني والفكري والاستعراض المبتذل الذي يعرض عبر بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لما في ذلك من أثر في الإساءة للمجتمع".

بالطبع لا تمتلك السلطة التي قتلت السوريين وشردتهم طوال عشر سنوات وقدمت للعالم تذكيراً بماهية الحياة في دولة ديكتاتورية والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه المتسلطون من أجل التمسك بكرسي الحكم، الحق في تقديم المواعظ الأخلاقية للشعب، لأنها فاقدة أصلاً للأخلاق. لكن الحديث عن تلك الأخلاق يحيل حتماً إلى تعريفها وماهيتها، وفي هذا الإطار يقدم النظام نفسه أمام البيئة المحلية المحافظة كحام للقيم والتقاليد والأخلاق المجتمعية، التي لا تعني بالضرورة أن تكون صفات حميدة أو عصرية في القرن الحادي والعشرين.

وبما أن القرار شديد العمومية ولا يحدد ما هي المواد غير الأخلاقية ولا يعرف الابتذال الذي يختلف منظوره من شخص لآخر، فإنه قد يشكل تضييقاً لكل من ينشر في مواقع التواصل من فنانين ومؤثرين ومستقلين، بما في ذلك الموالون منهم للنظام والذين يقدمون انتقادات للسلطة عبر الدراما البسيطة في "أنستغرام" أو "فايسبوك".

ولا يعتبر ذلك مفاجئاً لأن النظام السوري مثل أي نظام شمولي، يحرص على تقييد حرية الأفراد ويحارب الفردية (Individuality)، إذ يصبح التعبير عن تلك الخصائص الفردية واكتشاف الذات، بما في ذلك الفن والنشر في مواقع التواصل، أمراً غير مرغوباً به وقد يشكل في الواقع خطراً على من يقوم به. ويعود ذلك إلى حقيقة أن الأنظمة الشمولية تعمل على خلق أنماط من الأفراد وتشجع على السلوك الجماعي المحبب القائم على الطاعة والخضوع. أما قيم الفردانية فتعطي الأفراد حيزاً من القوة يأتي من اكتشاف مستمر للذات، ما قد يقود للتمرد من ناحية الإدراك لوجود حقوق يجب الحصول عليها.

في ضوء ذلك، بات الموالون الذين استماتوا في الدفاع عن النظام متخيلين أنه بوابتهم إلى الحرية الموعودة إبان الثورة السورية التي طالبت بتلك الحرية أصلاً، يدركون ربما أن الموالاة ليست مهمة سهلة ومريحة حتى بعد "النصر على الإرهاب" و"هزيمة المؤامرة الكونية"، لأن ذلك الولاء يعني حكماً الحياة تحت شروط قاسية تبدأ من الإذلال الاقتصادي اليومي في طوابير الانتظار لتحصيل الحاجات الأساسية اليومية من الخبز إلى البنزين، ثم الخدمة العسكرية الإلزامية التي تبدأ ولا تنتهي، وصولاً إلى ضرورة تقديم الشكر وإظهار الامتنان والمشاعر الوطنية لـ"القيادة الحكيمة" على ذلك الإذلال الممنهج وعبر لغة النظام ومفرداتها بنسبة 100% حصراً.

والحال أن هوس نظام الأسد تجاه الشكل الأخلاقي للدولة السورية زاد كثيراً في الفترة الماضية، حيث تحدث الأسد شخصياً في خطاباته التي باتت تأتي من المساجد أحياناً عن الأخلاق المجتمعية وكيف يحمي النظام مواطنيه من "الانفلات والتحرر". ووصل الأمر على ما يبدو إلى حد متطرف بتتبع الألفاظ "الخارجة" عن الآداب في مواقع التواصل. وكأن النظام هنا يتجاوز قمعه التقليدي المتواجد أصلاً بدليل الاعتقالات التي لا تتوقف، إلى حد تذكير مواطنيه بأن الضغط الذي يمكن أن يمارسه عليهم مازال في حدوده الدنيا.

ومن المثير للاهتمام أن تتم الإشارة إلى بعض اللوحات الدرامية التي تعمل على تقديم النكات الجنسية في "فايسبوك" و"يوتيوب"، كدليل على صحة القرار، خصوصاً من قبل المهللين له من أفراد همهم الوحيد على ما يبدو هو "الحفاظ على قيم العائلة" و"الدفاع عن الإسلام" و"محاربة الانحطاط. وتبرز في هذا الإطار سلسلة "سكر وسط" التي يشارك فيها ممثلون سوريون معروفون مثل ليث المفتي ويقدمها الممثل الآخر رضوان قنطار الشهير ببرامج الكاميرا الخفية. وبالطبع فإن هذه النوعية من المحتوى تبقى رديئة ليس لأنها تتعامل مع الجنس، لأن ذلك ليس مشكلة بحد ذاته، بل لأنها تتعامل معه كواحد من المحرمات المجتمعية.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن النظام سمح لسنوات بتلك الإنتاجات، لأنها تفيده فكرياً وثقافياً على العديد من المستويات، فإن الحديث عن محاربتها اليوم قد يكون آتياً من وزارة الأوقاف التي باتت تمتلك نفوذاً متزايداً في السنوات الأخيرة، وصل إلى حد تعيين خريجين من وزارة الشريعة في كادر وزارة الإعلام من أجل أداء وظائف رقابية على المنتجات الإعلامية والثقافية في البلاد. مع الإشارة إلى أن مجلس الشعب ونقابة الفنانين في وقت سابق، حاولتا وضع أسس أخلاقية حتى للمسلسلات الدرامية.

وتتضافر جهود وزارة الإعلام ووزارة الأوقاف معاً في حرصهما على المظاهر المجتمعية "اللائقة" وتكريس مفاهيم الحياة "النبيلة" دينياً ومجتمعياً، في معرض تقديمها للنظام على أنه محافظ على القيم العائلية والدينية "السمحة" في المجتمع السوري ونبذ العادات الغربية التي تشجع على الحرية الفردية. ويمكن تلمس نفس النقاش العام 2020 عندما حظرت وزارة الأوقاف إعلاناً لشركة محلية اتهمته بتقديم "إيحاءات جنسية".

هذا الهوس الجنسي المعكوس لدى النظام السوري، كأي نظام شمولي، يبدو أقرب إلى انتقام مسبق من الخيارات الفردية في الحياة، مع تصدير مفاهيم الذكورية السامة بوصفها قيمة من قيم المجتمع الأبوي القائم في البلاد، والذي يصبح فيه الجسد عيباً يجب ستره، والمرأة تحديداً مجرد ماكينة للجنس وإثارة الغرائز "الدنيا". وتصدير ذلك كله سياسياً وقانونياً يأتي كجزء من بحث عن الشرعية المفقودة، عبر خلق وهم بوجود معركة وجودية لا تبرر وجود النظام في السلطة فقط ، بل تبرر أيضاً البؤس الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه المواطنون، حيث يصبح الصبر والصمود على الواقع المزري جزءاً ضرورياً من حرب أوسع يخوضها الأفراد أنفسهم نصرة لـ"الدين" و"قيم العائلة".