عائلة حسين العطار في MTV...نجاح العاطفة وهزيمة الإعلام

سارة حطيط
الجمعة   2019/11/15
سيدة خمسينة تجلس على سرير إبنها، تحتضن الوسادة ثم تعيدها الى مكانها. تمرر يديها وكأنها تعيد ذاكرة لشخص لم يعد موجوداً أو مستلقياً في الفراش. ثم يُسمع صوتها الذي يتقطع تدريجياً عندما تتخيل بأنها تحدثه. تناديه: "يا روحي يا ماما حسونة" علّه يسمعها. تبكي.
 
ثم تظهر السيدة الى جانب ملصق لصورة ابنها "المرحوم حسين العطار"، وبعد ثوان، يطل رجل يضع كوفيه على كتفيه ويقول: "لغاية تسعطعش عشرة، حسين كان إبني. بعد تعسطعش عشرة حسين مش إبني... صار إبن الثورة". 

ما حدث آنفاً، هو مدخل التقرير الذي عرضته قناة "ام تي في" حول حسين العطار الذي استشهد في ثورة لبنان. هذا ما يمكن معرفته من التقرير بعد 49 ثانية من مشاهدته. 

ومع بلوغ الفيديو منتصفه، يعرض مشاهد من تظاهرات مع هتاف: "حسين حيّ فينا"، ورجل يبدو أنه رفيق حسين، بحسب التقرير، الذي رفعه عن الأرض حين مات. أما في نهاية التقرير، فتعود المشاهد الى منزل حسين والسرير، وأمّ تقبّل الصورة ووالد يقول: "صار أكبر من لبنان وأكبر من الحكام الفاسدين وأكبر منكن كلكن"، لتكون بعدها العبارة الختامية: "إياكم والاستهتار بالدم". 



ما يمكن إستنتاجه عند الإنتهاء من التقرير أن هناك عائلة، تعيش في حزن عميق بعد فقدان إبنها. العناصر الموجودة كلها تعطي المشاهد كمية ضخمة من الشحن العاطفي المأساوي، والتعاطف المطلق مع "الفاجعة" التي حلّت على كاهل العائلة. 

يجذب التقرير إستعطاف المشاهد. يحثه على الشعور بالألم في كل لقطة وعبارة تطلقها إحدى الشخصيات في الفيديو. إذاً نريد أن نقول بأنه فيديو عاطفي فقط. نجزم بأنه نجح في ذلك. لكن بما أنه فيديو عرضته وسيلة إعلامية، وبما أن هذه الوسيلة من المفترض أنها تقدم معلومة للمشاهد، فيمكن التأكيد بأن الفيديو فشل إعلامياً. 

لم يقدم التقرير أي معلومة حول الحادث. لماذا قتل حسين العطار؟ وكيف؟ ماذا كان يفعل؟ من هو حسين العطار؟ لا ندري. هي معلومات يحتاجها المشاهد لفهم القصة ولمعرفة الشخصية التي تدور حولها القصة، إلا أنها غابت بشكل كلي عن التقرير. تم الاكتفاء بإعداد تقرير فارغ من المضمون الصحافي، وغني بالمضون العاطفي. ورغم أن والد العطار في التقرير أكد أن "حسين أكبر من لبنان وأكبر من الحكام"، إلا أننا لم نر في موت حسين الا إنهياراً للعائلة التي أوجدته، وهذا صحيح، لكن ماذا عن موقع حسين، كرمز، في الثورة؟ 

وإذا كان هدف الوسيلة الإعلامية أن تنشر تقريراً داعماً للثورة، فالهدف لم يصل الى مبتغاه. لأننا تلقينا رسالة انكسار ووجع داخلي، من دون رسالة إنتفاضة، أو دافع للتضحية من أجل قضية. أي قضية؟ فالتقرير لم يتحدث أبداً عن القضية. 

ظهرت الوالدة في حالة إنهيار تام. أمّ متألمة. لا تريد إلا رؤية إبنها، ولا تريد إلا أن يكون إلى جانبها. أما والده فظهر في حالة غضب، معلناً أن ابنه إبن الثورة. لكنه يظهر مكسوراً، يحمل سُبحة إبنه ليشعر به، ويضع الكوفية التي كان يضعها ابنه كي يشمّ رائحته. لكن، لماذا انضم حسين إلى الثورة؟ لم تخبرنا "ام تي في". 

والحال أن هناك جانبين يحدان التقرير. الأول يتمثل في غياب الخصوصية أو الأصح عدم إحترام خصوصية العائلة والمرحلة الأليمة التي تمر بها. فالأم تحت تأثير الصدمة وتعيش حالة نفسية صعبة. وكل تعبير تقوم به هو نتيجة لهذه الصدمة التي تعيشها. ومن مسؤولية الصحافي في هذه الحالة عدم استغلال الحالة النفسية. ما يعني تصوير الوالدة على السرير تناجي طفلها، هو اختراق للخصوصية في الأعراف الإعلامية العالمية. 

بالطبع، الوالدة على علم بوجود الكاميرا الى جانبها، التي توثق كل ما يحدث. لكن هل السيدة مدركة لما يحصل حولها؟ هل هي في حالتها الطبيعية؟ انطلاقاً من هنا تكمن مسؤولية الصحافي. هذا لا يعني ألا يعد تقريراً عن المأساة، بل أن يعد تقريراً يحترم الخصوصية.

وكي نصل الى هذه النتيجة على الصحافي ان يدرك بأن السيدة تعيش حالة إنهيار، وكل ما تقوم به هي لحظات خاصة جداً. اما نقل هذه اللحظات الى المُشاهد فينتهك حميمية حزنها. ويغيب عن بال معد التقرير ان استبدال مشاهد الوالدة على السرير تحمل الوسادة وتقبلها، بمشاهد من غرفة الجلوس مثلاً وهي تنظر الى صور إبنها وتتحدث عنه، يقدم رسالة بأنها تعيش حالة حزن ومأساة، ولن يشعر المشاهد بأنه يخترق عالم حزنها.

من ناحية ثانية، يُصنّف الفيديو تحت خانة تحريك المشاعر سلبياً. أي أنّه "يضرب" الطاقة النفسية للمشاهد. ففي هذا نوع من التقرير، وغالبية التقارير التي تُعدّ عن الضحايا في لبنان، لا يظهر الصحافيون اهتماماً يُذكر بما قد يؤثر في المشاهد عند الانتهاء من التقرير. لا يمكن النكران بأن العاطفة جزء أساسي للتأثير في المشاهد. لكن الإكثار من بث المشاعر يستنزف طاقة المُشاهد، وقد يوصله إلى حالة الحياد (اللاشعور)، أي عدم التجاوب أو الإحساس والدخول في مرحلة الإعتياد السلبي الروتيني.   

امام هذا التقرير، والتقارير الأخرى التي تواكب تشييع الضحايا، ليس على الصحافي إلا التذكر بأن المعلومة هي أساس المادة، وإحترام الخصوصية للعائلة ضرورة للعمل المهني، كما ان إحترام وإدراك ووعي وقع الرسالة على المشاهد هو واجب من أجل تقديم رسالة إعلامية هادفة ومهنية.