عن عصر ما بعد الحقيقة..

بتول خليل
الأربعاء   2018/04/25
وائل عبد الفتاح: ما يجب التصويب عليه هو الصراع المحموم على مركزية الكذب (علي علوش)
في العام 2004 قدّم الكاتب الأميركي، رالف كييس، في كتابه "عصر ما بعد الحقيقة، الصدق والخداع في الحياة المعاصرة"، رؤيته حول التحولات التي برزت في سلوك الأفراد لناحية تحوّل ما أسماه "سلوك التضليل العفوي" Casual Dishonesty إلى وباء تجسّدت ملامحه جلية في عصر ما بعد الحقيقة، حيث صارت الحدود ضبابية بين الحقيقة والكذب والصدق وخيانة الأمانة والخيال والواقع، بل وأصبح خداع الأخرين تحدياً، لعبة، وتحوّل في النهاية إلى عادة. فالمواطن العادي بات يروي الأكاذيب على نحو يومي، ضمن سلسلة كاملة من العبارات بدءاً من "أنا أحب السوشي" وصولاً إلى "أنا أحبك".

الرؤية هذه استتبعها نقاش عالمي حول ماهية عصر ما بعد الحقيقة وانتشار ظاهرة الأكاذيب والتضليل وتغلغلها داخل النسيج الاجتماعي ومن ثم بروز "حلقات مفرغة ولا نهائية من الخداع"، أدّت إلى تحولات في التوجهات تجاه البراهين والحقيقة ذاتها، فيما أجمعت الدراسات والأبحاث التي أجريت في هذا الإطار على إشكالية رئيسية تتمثل بافتراض أهل السلطة والإعلام بأن الجمهور غير قادر أو راغب في تحليل وتقييم المعلومات بدلاً من التركيز على القيود والعوائق التي تعترض مشاركة المواطنين العاديين، خصوصاً في ما يرتبط بالتعامل معهم كمجرّد متلقين للمعلومات. وأتت لاحقاً دراسات أخرى لتردفها بإشكاليات تتمحور حول صعود اتجاهات تسليح المعلومات وتوظيفها في سبيل تغيير الإدارك العام للأزمات والقضايا بما يتوافق مع المصالح المسبقة للدول والاطراف. وأسهمت العناصر المشتركة بين التسليح والتضليل في انتشار الدعاية والصعود الملفت لظاهرة "ما بعد الحقيقة".

"هل نعيش اليوم عصر ما بعد الحقيقة؟"، سؤال طرحته مئات الدراسات والمقالات والندوات في سياق الحديث عن تداعيات ظاهرة الكذب والتضليل. لكن اتفاق معجم "أوكسفورد" البريطاني، و"ويبستير" الأميركي في العام 2016، على إضافة مصطلح "ما بعد الحقيقة" باعتباره أحدث المفردات التي راج تداولها كثيراً، حمل النقاش إلى مستوى أعمق، خصوصاً أنه أتى عقب وصول دونالد ترامب إلى السلطة وإحداثه تغييراً جذرياً في طبيعة ومستوى الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. الأمر الذي لعب دوراً في تحديد مفهوم "ما بعد الحقيقة" بوصفه الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في الرأي العام من الشحن العاطفي واللعب على وتر المعتقدات والغرائز الشخصية.

التعريف هذا شكّل منطلقاً لنقاش جديد خصصته مؤسسة "مهارات" و"أكاديمية دويتشه فيلله"، ضمن مؤتمر "الأخبار الكاذبة وديمومة الإعلام"، والذي تمحور حول التحولات التي أحدثها دونالد ترامب في النظرة إلى الحقيقة والتعامل معها، خصوصاً أن الرجل الذي عبّر في كتابه "فن الصفقة" عن قناعته باللجوء إلى الكذب كوسيلة لإتمام صفقة ما، غيّر المعادلة والموازين بشكل جذري في البيت الأبيض ولدى الطبقة السياسية والأميركيين عموماً، على ما يقول آرون شاروكمان، المدير التنفيذي لمؤسسة "بوليتي فاكت" المعنية بالتحقق من المعلومات والأخبار.

لكن هذا الطرح يقود إلى سؤال أساسي، من وجهة نظر الصحافي الألماني هاردي بروثمان، وهو: "هل فعلاً هناك عهد ما قبل الحقيقة؟ وما هي الحقيقة أساساً؟ وما هو دور ترامب في هذا الإطار؟". وأضاف أن ترامب مسلّ طبعاً، ينشر التعابير والمصطلحات في "تويتر" ويرددها الناس بشكل ببغائي لأنها جذابة، في حين يحوّلها الإعلام إلى مادة خبرية كونها تندرج في إطار المحتوى الرخيص والذي لا يتطلب أي جهد صحافي للحصول عليه. إلا أن الكاتب والصحافي المصري ومؤسس موقع "مدينة"، وائل عبد الفتاح، اعتبر أن ما يجب التصويب عليه هو الصراع المحموم على مركزية الكذب، إذ إن مصدر الكذب لم يعد واحداً، منتقداً حصر النقاش بمسألة الحقيقة ما قبل ترامب وما بعده، في الوقت الذي باتت فيه الجماهير تنتظر الكذبة وتتلهّف إليها. وهو ما وافق عليه الصحافي هاردي بروثمان، قائلاً إنّ الأكاذيب باتت واقعة كروتين يومي، وتحوّل الكذب إلى سلوك بشري سائد، وحري بنا أن نفكّر بتأثيره على علاقاتنا وآرائنا ومواقفنا لا على وجوده أساساً.

إلى ذلك، اعتبر المحاضر في الدراسات الإعلامية في الجامعة الأميركية في بيروت، ربيع بركات، أنّ ظاهرة الكذب ليست بالأمر الجديد. والقول بأنّ أهل السياسة بدأوا يكذبون بوتيرة أكبر ليس بالأمر الجديد، إنما التغيّر الذي حصل هو أن أثر الأكاذيب قد تبدّل تزامناً مع اتساع قدرة الوصول إلى المعلومات وطفرتها. والحقيقة أن ترامب يعبّر بشكل واضح عن منطلقات غرائزية لم تكن مألوفة بالنسبة للقيادات التي لطالما كانت تؤمن بها وتعتمدها، إنما بشكل موارب. وما نشهده اليوم ليس فقط انتشار الأخبار الزائفة، بل انتقالها لمستوى أهمية الأخبار الدقيقة والقصص الحقيقية نفسه، ولا يمكن فصل ذلك عن دور السوشال ميديا التي خلقت خوارزميات تعيد بشكل متسارع وفعّال انتاج قناعاتنا وإعادة تشكليها وفقاً لمختلف الظروف والأحداث. وهذا ما يساعد على تشكيل فقاعات تضم مجموعات تتشابه في المواقف والآراء، وتعطي الدور الأخضر لرجال السياسة لاستهدافها بالأكاذيب والاضاليل من منطلقات المعتقدات والعواطف وليس الحقائق والوقائع.