أنبياء مصر الجدد

أحمد شوقي علي
الأحد   2018/11/11
أوهام المصريين الجدد تعكس رفضهم لنموذج أحمد زويل الحائز على نوبل في 1999
أمس، بثت صفحة "إزعاج علمي"، وهي صفحة فايسبوكية ساخرة تعني برصد كل ما يروج للجهل، مقطعاً مصوراً للقاء تلفزيوني مع شاب مصري، يدّعي أن اختراعاً له، قادر على إنقاذ العالم من خطر الاحتباس الحراري، وتجنيب الكرة الأرضية كارثة الغرق، عبر مقترح كاريكاتوري أقرب في محتواه إلى النكتة منه إلى الطرح العلمي.

وعلى الرغم من أن الفيديو قديم، ربما يعود تاريخ إذاعته تلفزيونياً إلى ما قبل عام 2015، إلا أن المشاهد لن يشعر بذلك التقادم، ربما بسبب ازدهار نشاط المخترعين العرب، الذين بات الكشف عن ابتكاراتهم القادرة على تغيير مستقبل البشرية، أقرب إلى النشاط اليومي.
يقترح الشاب، الذي ظهر عبر شاشة روتانا مصرية (توقف بثها في أكتوبر من العام الماضي)، إحداث فجوات في اليابسة على نطاق الشواطئ المهددة محيطاتها بالفيضانات، لتستوعب كميات المياه الزائدة نتيجة ذوبان الجليد بفعل ظاهرة الاحتباس الحراري.

لكن ذلك الطرح الساذج، ليس أكثر ما يلفت النظر في ما قاله الشاب المصري، الذي جلس مرتدياً حول عنقه ميدالية تكريم عن اختراعه العلمي، وإنما اللافت هو قدرة ذلك الشريط القصير -وغيره من محتوى مماثل- على الحضور كفعل جار متجدد، غير منفصل عن المناخ المصري والعربي العام، فلا يبدو كنتيجة له ولكن أحد معطيات وجوده.

في السنوات الأخيرة، بات من غير الطبيعي أن يمر شهر من دون أن تتناول وسائل الإعلام المصرية مطبوعة أو مرئية، خبراً عن ظهور مخترع جديد قادر ليس فقط على تغيير مصير بلاده، وإنما على إحداث تغيير يمس تطور الجنس البشري ككل. وفي الفيديو المشار إليه، يرفض الشاب اقتراح مذيع برنامج "عز الشباب"، في أن يتقدم بمنظومته –كما وصف الاختراع- إلى جهات تدعمه، لأنه لا يجب عليه أن يبحث عنها، وإنما هي من يجب عليها أن تبحث عنه.

ولا تبدو تلك الثقة الزائدة التي أظهرها المخترع الشاب بينما يعرض خرافاته، خاصية ينفرد بها عن غيره من أقرانه وإنما تظهر في تكرار شبه ثابت في كل المحتوى المماثل الذي تعرضه صفحة "إزعاج علمي"، التي يمتد نطاق اهتمامها إلى رصد بواعث الجهل/ القبح في مجالات شتى، غير أن ما يجمع بين كل هؤلاء المخترعين، بالإضافة إلى كونهم عرباً، وأغلبيتهم مصريون، ليست تلك الثقة المدهشة، وإنما وحدة هدفهم لإنقاذ البشرية والمصير المتخيل الذي يتوقعونه لأنفسهم ولاختراعاتهم.

ثمة رابط بين هؤلاء المخترعين، ونشأتهم في وطن عربي كان مهدًا للرسالات السماوية الثلاث، ولا نقصد هنا أن ثمة باعثاً دينياً وراء تلك الرغبة في الابتكار، تهدف إلى نصرة دينية مبنية على أساس طائفي، لكن الإطار الاجتماعي المشبع بمناهج الدعوة والتبشير، ذلك الإطار الرسالي المؤثر في تشكيل الخيال الجمعي لأبناء المنطقة العربية، يُحمل هؤلاء المخترعون بأوهام تخص رغبتهم في امتلاكهم الريادة العالمية، وأن خلاص الكون يبدأ من عندهم هم، مثلما بدأ خلاص البشرية من أرضهم التي نشؤوا عليها.

فداخل كل مخترع منهم "نبي" يحمل رسالة تتجاوز محيطه الإقليمي إلى الكون الفسيح، وتنشغل أفكاره العلمية بإصلاح الكون كله وليس النهوض فقط ببلاده، بل ويتناسب مستوى تحصيلهم العلمي مع الطرح نفسه في تمازج غريب، حيث لم تحصل غالبيتهم على تعليم أكاديمي ذي علاقة بالبحث العلمي، وكان بعضهم حديث السن لم يتخطَ المرحلة الإعدادية من التعليم الأساسي، وكأن ما امتلكوه من معرفة علمية جاء حصيلة لوحي تلقوه عبر السماء!

ثمة مشترك آخر يتخلل خطاب التخريف، الذي يردده المخترعون الذين اشتهروا عبر صفحات السوشيال ميديا واستضافتهم في العديد من الفضائيات التابعة للتلفزيونات الوطنية العربية والخاصة، وهو تلويحهم الدائم برغبة الغرب في الاستحواذ على معرفتهم الفارقة واستقطابها إلى أراضيهم. هذا أيضاً في شكل منه مرتبط بالجذر الثقافي الديني "ولن يرضوا عنك قبل أن تتبع ملتهم"، وهو المصير الذي يرفضونه رفضاً قاطعاً، رغم أن بعضاً منهم يتم تقديمه في الميديا كمكرمين من قبل منتديات عالمية أوروبية مزعومة، ولكنه التكريم الذي لا يعدو أكثر من رغبتهم في الحصول على حقهم الطبيعي كعقول فارقة في انتزاع اعتراف الغرب المتقدم وتقديره، وهو التقدير الذي لا يبدو كافيا بالنسبة إليهم إذ يظهرون في الغالب كمن يستغيث بحكومات بلاده ومؤسساتها الوطنية، للاستفادة منهم بدلا من أن يسقطوا فريسة لذلك الاستقطاب.

هذا الوهم الذي يردده هؤلاء المخترعون دون استثناء، يعكس رفضهم بشكل أو بآخر، خاصة المصريين منهم، لنموذج العالم المصري الراحل، أحمد زويل، الذي حاز على جائزة نوبل في الفيزياء، بفضل أبحاثه التي أنجزها في معامل الغرب، والتي أفادت نتائجها تطور العلم الغربي دون بلاده التي ترتع في الجهل، لذلك وبسبب هذا التخلي وتلك الإدانة المبطنة، بالإضافة إلى العقد النفسية المصاحبة للتأخر، يفضل هؤلاء المخترعون نموذجين آخرين تبدو سيرتهما الذاتية، وإن كانت أقل إنجازًا، أكثر بطولية في معتقداتهم، وهم على سبيل المثال العالمة المصرية سميرة موسى التي توفيت إثر حادث سير في الولايات المتحدة يعتقد بتدبيره للتخلص منها، وكذلك مهندس الاتصالات المصري سعيد السيد بدير، الذي رحل في العام 1989، بالإسكندرية، وسط شكوك بتصفيته من قبل الموساد الإسرائيلي.

تلك العوامل السابقة، يمكن تفسيرها في إطار تأخر الحضارة العربية كثيراً عن الإسهام في التطور العلمي، وتبعات ذلك من مشاعر سلبية وإحساس بالدونية يسيطر على أبناء هذه الحضارة، لكنه في النهاية سيبدو طرحاً قاصراً وحده عن تفسير تلك الظاهرة اليومية، الذي يحتاج تفسيرها إلى بحث أكثر علمية من نقاش الظاهرة صحافياً، أو طرحها في قالب ساخر، قد يسهم في مواجهتها لكنه غير كاف لتفنيدها.

أما عن إقبال الإعلام على استضافة مثل هؤلاء رغم ما يشوب خطابهم من سذاجة واضحة لا تحتاج عالماً لاكتشافها،  فقراءة أداء الميديا، في هذه الجزئية بالتحديد: الترويج للخرافة، كإحدى تداعيات الإعلام الموجه، ستبدو متسرعة أيضاً، لأنها تفترض في طرحها أن ذلك الإعلام يملك من الوعي والمعرفة ما يمكنه من استغلال هذه الظواهر للإلهاء أو لتحقيق مزيد من التجهيل وإحكام السيطرة على الجمهور، لكن الواقع واستطلاع ذلك الأداء، يكشف عن أن صناع الميديا، لا يختلفون في ضحالة وعيهم وإيمانهم بالخرافة كثيرًا عن هؤلاء المخترعين.