سيلفي القطار: هجوم تتري على لحظة توثيق إنسانيّ

أحمد ندا
الأحد   2017/08/13
لم يحتاجوا إلى أكثر من "سيلفي" لتنقلب حيواتهم رأساً على عقب. مسعفو وزارة الصحة المصرية، في موقع حادث القطار الاخير الذي أسفر عن مقتل العشرات، يلتقطون "سيلفي" أمام أشلاء القطار المحطم. صور ثنائية وثلاثية وفي خلفيتهم عجلات قطار وجسم معدني، لا وجود لأجساد بشرية ولا ابتسامات مع الصورة كما اعتادت المخيلة. السيلفي يعني "وجه البطة"وابتسامة بلهاء وتعبيرات ساذجة، لكن كل ذلك لم تتضمنه الصورة.
تعامل المدونون من المصريين مع "سيلفي" مسعفي الحادثة ببداهة. حيث أن الهجمة التترية عليهم من مواقع التواصل تمادت في غضبها من المطالبة بتحويلهم إلى التحقيق الإداري مرورا بالرغبة في فصلهم من عملهم إلى المطالبة بإحالتهم إلى المحكمة! واعتبار فعلتهم جريمة يعاقب عليها القانون! لن تكفي علامات التعجب في التعبير عن التمادي الذي وصلت إليه المطالبات الإلكترونية بمعاقبة المصورين.

هناك شيء ما مركب في الواقعة، حيث إن من اختطف توثيق لحظة التقاط الصورة هو صحافي يبحث بعين خبيرة عن معطى جديد لتوثيق الحدث المكرر. كل حوادث القطارات المصرية تتشابه، القطارات المتهالكة القديمة والوجوه الباكية الفقيرة، لا جديد فيها. السيلفي إذن شيء جديد على عين المصور وبالتالي المتفرجين. المعطى الجديد هو ما منح الحدث قوته وزخمه، وبالتالي تحولت الاهتمامات إلى السيلفي، هنا تكمن الفكرة التي تستدعي التأمل أن ما وثق التقاط الصورة هو صورة أيضا.

كان يمكن أن تمر الحادثة لولا توثيقها. المسعفون هنا لم يختلفوا كثيراً عن الطبيب الذي يلتقط سيلفي في غرفة عملياته، أو عشرات رجال الإطفاء الأميركيين في ذروة قيامهم بأعمالهم وهي منتشرة وكثيرة على الإنترنت. الغضب المصري العام يبدو سببه الظاهري هو الاستهانة بالموت لكن هذه وجهة نظر الصورة التي انتشرت، وهي على الأرجح بعيدة كل البعد عما اعتقده المسعفون أنفسهم، فلم يكلف أحد البحث عن صورة السيلفي نفسها كدليل الجريمة على الأقل! المسعفون كموظفين هامشيين يوثقون الاشتراك في حدث كبير، ربما كان دافعهم هو الارتباط بفعل إنساني، أي من الممكن أن يكون دافعهم أخلاقياً بالضرورة على عكس المتخيل العام، هؤلاء هم الذين يتدخلون لإنقاذ المصابين في حدث كبير تهتم له وسائل الإعلام.

تقول سوزان سونتاج في كتابها عن الفوتوغراف "إن التقاط الصورة هو حدث بحد ذاته -وحدث بحقوق مغالى فيها- يتعارض مع الحدث، ينتهكه، أو يتجاهل ما يحدث".. كلية وجود الكاميرا توحي، على نحو مقنع، بأن الزمن يتألف من أحداث مثيرة للاهتمام.. يظل المصور الفوتوغرافي قابعا وراء كاميرته، ليخلق عنصراً صغيراً جداً من عالم آخر: عالم الصور، الذي سيعيش بعدنا جميعاً زمناً أطول.. "التصوير الفوتوغرافي، هو في الجوهر فعل اللاتدخل". ألا ينطبق ذلك على صورة المسعفين التي التقطها المصور الصحافي قبل السيلفي؟

هنالك جانب شديد الأهمية في العنف الموجه ناحية هذه الصورة، في الغضب العام ضدها، وهو أن المتابعين ولو بشكل لاواع يستخدمون سلطتهم تجاه الطرف الأضعف، ما يجعل "حل" المشكلة مواتياً وقريباً، وهو ما استجاب له وزير الصحة وعاقب "المتهمين" بنقلهم إلى سيوة على الحدود المصرية الليبية، مع أن تصريحه يقول "إن هيئة الإسعاف قامت بدور جيد في حادث القطار ونقلت بشكل سريع وفوري كافة المصابين والوفيات، وتعاملت مع الحادث باحترافية كبيرة جدا، وإن ذلك لن يمنعه من اتخاذ الإجراء اللازم نحو المسعفين اللذين التقطا صورة سيلفي بجوار القطار".

إنها إذن الاستجابة التي تهدئ من روع الغضب الافتراضي، الذي لم يتوقف لحظة للتساؤل هل قام هؤلاء المسعفين بدورهم المنوط بهم؟ أم لا؟ وكأن حل الكارثة كان بحل النزاع الذي اختصرته الصورة فحسب.