محاولة أولية في التخبيص

روجيه عوطة
السبت   2017/06/10
إذا أردنا الحديث عن سمة سلوكية لمجتمع الحطام اللبناني، فقد تكون التخبيص. ذلك، أن ممارسه، أو بالأحرى فاعله، يظن أنه، وكلما ضاعف من تأديته، وغدا مخبِّصاً أكثر، يجد طريقاً إلى العيش، والتمكن منه. فالتخبيص، بحسبه المختوم بالشقاء والإستعجال، هو كناية عن تعدد التجارب، لكنه، للأسف، ليس على هذا الوضع، بل عكسه تماماً.  
إذ أن المخبِّص هو الذي، ولما تتحول تجربته من درب إلى درب، من مصدر خبرة إلى مصدر إعلال، يحاول التستر على ذلك، ونكرانه، من خلال الإنتقال إلى تجربة أخرى، غير أنه انتقال ناقص، قريب من اللوذ السلبي، أو من الإسفاف الهذياني. بالتالي، لا ينجز المخبِّص التجربة الأولى، ممحصاً حقيقتها، ولا يخوض التجربة الثانية، بل يستهيم فيها. بعد هذا، قد يتردد، وبعد هذا، قد يرتد، لكنه، في الحالتين، يرتكس.

ففي حال تعيين مرادف للتخبيص، أو معادل له، فمن الممكن القول أنه الإرتكاس، أي الوقوع في أمرٍ من دون النجاة منه. فالمخبِّص هو الذي يقع ولا ينجو من موضوع أو موضع سقوطه، الذي، وفي الكثير من الأحيان، لا يقدر على تحديده، ولا يستطيع أن يكون على دراية منه، إلا أنه سرعان ما يدفعه، ما يرغمه على الإستعاضة عنه بموضوع أو موضع غيره، لا يمكن أن يتصل به إلا على أساس السقوط فيه أيضاً. 

من وقعة، صارت حقيقتها حاضّة على مواجهتها، إلى وقعةٍ، الباب إليها هو الوهم، لا يخرق المخبِّص حائط الوهن، والتعاسة، والجمود، الذي بلغه، بل يخرِّف. أي أنه، وبدلاً من أن يختار طريقة من الطرق، يستند إلى خرافة من الخرافات الشائعة. وأولها ربما هي "أنا حر يعني أستطيع أن أفعل ما أشاء"، وغالباً ما تنطوي الـ"ما أشاء" على "أريد أن أنجو فوراً"، وبما أن النجاة تستلزم التجلد والتأخر، فهو، عند مضي المخبِّص إليه من لحظة إرادته، يحمل ذلك إلى بغيةٍ بعينها: تمتين وقوعه، وإيقاع أغياره، أي توسيع موضع سقوطه، ترحيبه، "مرحبا بكم في قاعي، الذي، وعندما تتقدمون منه، أكون قد حولته إلى شِرك".

فعلياً، المخبِّص لا يرغب في النجاة، لا يرغب سوى في تخبئة حقيقة وقوعه في أمره من دون نجاته منه: إنه مخبئ لاقدرته، ومخبئ إمتثاله وتعلقه به، ومخبئ واقعه أيضاً. ولهذا، ولما عرفت العربية الخبْص، قالت أنه أشد من الكذب، ليس لأنه يودي إلى تمتين الوقوع، وإيقاع الأغيار فقط، بل لأن "حبله ليس قصيراً"، بل هو طويل، وطويل للغاية، إلى درجة أنه قد يلتف على المخبِّص، حتى يخنقه، أو حتى يجعل دنياه عبارة عن خبصة. وإذا، في يوم من الأيام، أفلت منها، تبدو عبارة عن كذبةٍ، كذبة ضخمة، لا تدفعه سوى إلى الإفراط فيها، لأنها حمّالته الوحيدة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة، ولو الطفيفة، إلى أن المخبِّص لا يقول "أنا أكذب"، بل يقول "لا وجود للصدق أو الكذب على الإطلاق"، فهذا ما يدخله في نوع من الموات، يعتقد بأنه سكينة.

لا يتحمل المخبِّص حقيقته، يخبّص كي تخبو، يداوم على العيش في ملاذه الآمن، في النكران، وبالفعل نفسه، لا يستطيع مبارحة تلك الحقيقة البتة، وبمعنى آخر، لا يستطيع أن ينجو: أن ننجو يعني أن نخلق، لا أن نخلط، أو نخطل. لا يجرب المخبّص في أي خبصة من خبصاته، وقعة من وقعاته، لا يستخلص منها أي واقعة، ولا يكتشف خلالها شيئاً عن نفسه، ولا يكتسب في أثنائها شيئاً لنفسه، بل يدور، ويتوه، معتبراً أن الضلال هو دائماً، وبلا أي مقومات راسخة، سبيله إلى الإستدلال. فحين يتحدث المخبِّص عما يسميه "التجريب" يعني هذا أنه يريد أن يضيع أكثر فأكثر، يعني أنه يريد مواصلة ارتكاسته.