11 أيلول: عندما عمّت الإحتفالات بيروت!

محمد شبارو
الخميس   2014/09/11
يلهون بأسلحتهم الخشبية في مرفأ النورماندي - كانون الثاني 1989 (غيتي/ نبيل اسماعيل)

كنت يافعاً عندما ضجت قنوات التلفزة المحلية بخبر أوحد: لحظة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة الأميركيين، والمشهد المُعاد مراراً ما يجعل من الصعب على أي كان تجاوزه. الدخان. الهلع. المهرولون بحثاً عن مكان آمن. لحظة السقوط، العدّادت تحصي عدد القتلى والجرحى، البنتاغون خُماسي الأضلاع. وجه جورج بوش. كلها لا تزال حاضرة كأن الحدث وقع أمس.

لم يكد يمرّ أسبوع على طائرتي البرجين.. ولم تُنتزَع من المخيلة اليافعة صورة تلك المرأة الغامضة، الخارجة من سحب الركام المتهاوي. شعرها المنكوش المغبر، وجهها، أنفها الأفطس. لم يكن مشهد نيويورك وحده الحاضر. إلى يمينه ويساره، أكثر من تساؤل يبحث عن جواب. مَن استهدف مَن؟ لماذا؟

تلك المشاهد أذكرها. رأيتها سابقاً عندما كنت صغيراً، في شوراع بيروت. في زواريبها. في وجه أبي القلق، وأمي المرعوبة. يومها، خبرنا وعينا الأول على مشاهد الدمار. ما زالت اليدان اللتان لم تتجاوزا الأعوام الأربعة، تذكران ثقل "غالون" ماء الشرب المعبأ من مركز الإطفائية القريب. تذكران أيضاً حجارة الردم التي كنا نتعاون لإزاحتها، افساحاً في المجال لسيارة الهروب تنتشلنا من الموت وتأخذنا بعيداً حيث الأمان.

طائرتان تخترقان برجين.. ويُبعثُ ما علق من ذكريات في مخيلة ابن في الرابعة، في ثوان: المنزل المحترق، ما تبقى من الشظايا، صوت الأب الناهي عن الدخول إلى الغرفة المستهدفة، أريكة كنت أتدلل عليها، وتلفاز صغير "أبيض وأسود" أديره على البطارية لمشاهدة رسوم متحركة على شاشة تلفزيون "المشرق" الساعة السادسة. كان ذلك قبل أن أدرك أنها قناة يسارية، رداً على يمينية المؤسسة اللبنانية للإرسال. بقي كل ذلك عالقاً، وسط كم من التساؤلات: لماذا منزلنا؟ وتلك الأريكة والتلفاز الصغير؟ من فعل ذلك؟ إجابة الوالد مختصرة: إنها حرب عون والسوريين. كنا في العام 1989.

بعد 11 عاماً، عادت تلك المَشاهد كاملة، لحظة مُشاهدة أبراج تتهاوى. ثوان كانت كافية لذكريات يقولون إنها طفولية. لكن في الخارج، كان المشهد معاكساً! الفرح يعم الجميع، بعضهم عبّر عن ذلك علناً. أطلق شباب الحي رصاص الإبتهاج. نعم، كان الرصاص "دارجاً" أيضاً في ذلك الوقت. وبعضهم قرر التجول في مواكب سيارة عبر مناطق سنّية وشيعية. يومها، كان "الشيطان الأكبر" لا جدال حوله.

للأمانة، لم يكن الجميع يشعر بالنصر يومها. قلة فقط كانت في المنطقة الرمادية، وأقل منهم مَن ظهروا على المنابر ومحطات التلفزة، معبّرين عن رفضهم للموت. عادت التساؤلات: كيف يهلل البعض للموت؟ للدمار، للرعب؟ لم يكن أحد، في محيط العائلة، قادراً على الإجابة. كانت الدعاية "القاعدية" القائلة بضرورة أن "يتذوقوا ما نتذوقه في عالمنا العربي وفي فلسطين تحديداً"، لتبرير الهجوم بوصفه رداً على الدعم الأميركي لإسرائيل وجرائم الكيان الصهيوني الغاصب، تلقى رواجاً استثنائياً. هي نفسها اليوم المستعملة لتبرير كل صنوف الإرهاب.

يومها، لم يكن الإرهاب إرهاباً طالما أنه يستهدف الآخر، العدو، حتى لو كان أعزل. كانت الصورة أعمّ، وأشمل. لم تكن بيروت ومسلموها فقط مَن يؤيد هذه النظرة. حتى العلمانيين، ممن يعادون أميركا وقتها، إنتشوا بأبراج تتهاوى. أدركتُ ذلك عندما تجاوزت سن اليفاعة.

إحتاجت الأنظمة العربية والإسلامية أعواماً لتبيّن لشعوبها خطورة الإرهاب. حدث ذلك عندما انتقل الإرهاب إلى البيت الداخلي، وشكّل خطراً على الجماعة. "الإرهاب لا دين له"، تلك الدعاية السمجة التي أذكرها كما أذكر دعايات البطاريات ومساحيق التنظيف.

وبعد.. لم يتغير المشهد كثيراً. ما زال الإرهاب، الذي لا دين له، محط جدل، بوجوهه المتعددة، دينية ومذهبية وأنظمة قمعية. ما زال الإنسان في حد ذاته ثانوياً، والفرد ليس أولوية. فقط الجماعة تحدد مصالحها، وتالياً ما هو "إرهاب"، وما هو تحصيل للحقوق وردٌّ للنار بالنار والحديد بالحديد. وفق هذه النظرية، أضحى صدّام حسين بطلاً لدى البعض، ووفقها أيضاً قُدّس بشار الأسد لدى البعض الآخر.

ما زالت بيروت تحتفل يومياً بموت الآخر. أشمّ رائحة الدماء في شوراعها وفي نفوس ساكنيها، في خطاباتهم العنصرية تجاه الآخر، في "إرهابهم" الفكري تجاه المختلف، في ثقافة الجماعة، في ثقافة العشائر، في ثقافة "البقلاوة"، وإن خبت ظاهرياً.
ما زالت بيروت تحتفل بالموت، وترفع الدم قرباناً للجماعة... وبقائها.