تلفزة الانترنت تقصي الفضائيات... إلى الحمّام

أحمد مغربي
السبت   2014/04/19
نعم. إنها تتمدّد. ربما على طريقة القول الشهير لغاليليو غاليليلي "نعم. إنها تدور". همس غاليليو بتلك العبارة، لكن من الصعب الحديث همساً عن ظاهرة تلفزة الانترنت. إنها تصرخ بالجميع. وتصرخ بوجه أهل التلفزة قبل غيرهم: "انتبهوا. هناك زمن آخر آت. قد تكون نهاية التلفزيون أقرب مما تعتقدون"!
 
ربما أول الغيث كان "نت فليكس" Netflix. (راجع "المُدن" في 4 كانون أول 2013). ولم ينقضِ العام المنصرم قبل أن تدخل تلفزة الانترنت إلى قلب الميديا المرئية- المسموعة. وعلى مسرح "نوكيا" في وسط مدينة "لوس أنجيلس" الأميركية، أدخل موقع "نت فليكس" الانترنت إلى قلب فن التلفزة التي كانت تحتفي بنفسها عبر الدورة الـ65 لـ"جائزة إيمي" التي تعتبر موازية لجوائز الأوسكار في فن السينما. وفي هذه الدورة، أضيفت جائزة لفن المسلسلات المصنوعة خصيصاً لتلفزة الانترنت. وحصد موقع "نت فليكس" الترشيحات الثلاثة لهذه الجائزة عبر مسلسلات "بيت أوراق اللعب" House of Cards (فاز بالجائزة)، و"ممر هِملوك" Hemlock Grove و"تطوّر مقموع" Arrested Development. 
 
في مطلع نيسان/ابريل الجاري، تهاطلت كزخّات المطر الأخبار عن سعي شركات المعلوماتية والاتصالات، وضمنها الألعاب الإلكترونية، إلى دخول حقل تلفزة الانترنت. إذ أعلنت شركة "أمازون.كوم" الشهيرة، وهي مكتبة إلكترونيّة توسّعت نشاطاتها لتشمل الميديا الرقميّة بأنواعها، أنها اشترت حقوق إعادة بث جميع حلقات المسلسل التلفزيوني "24" بتقنيّة البثّ التدفقي عبر الشبكة "أون لاين فيديو ستريمينغ"  On Line Video Streaming. ولم يفت الصحافة الأميركية ربط هذا الإعلان عن سعي "أمازون.كوم" لمنافسة "نت فليكس".
 
وفي منافسة مشابهة، أعلنت شركة "سوني" للإلكترونيّات (تذكيراً، هي تملك أيضاً استوديوهات ضخمة في هوليوود لصناعة الأفلام)، أنها تعتزم تحويل قصة "باورز"، وهي من الـ"كوميكس" المصوّرة الشهيرة عن أبطال خارقين، إلى مسلسل تلفزيوني على الانترنت، لمنافسة "نت فليكس". وفي خطوة جريئة، أوضحت "سوني" أنها تعتزم صنع مسلسلها على طريقة الألعاب الإلكترونيّة، بل ستنتجه في نُسخٍ مُعدّلَة بما يتلاءم مع جهاز الألعاب الإلكترونيّة "بلاي ستايشن". ويفتح الخبر باباً لنقاشات واسعة عن العلاقة بين فنون الترفيه البصري والألعاب الإلكترونيّة! 
 
وفي الأسبوع الأول من نيسان، أكّدت شركة "ياهوو!"، وهي احتفلت بعشرينيتها في مطالع هذه السنة (راجع المدن 9 كانون الثاني 2014)، أنها ترغب في تعزيز صناعة المحتوى المرئي- المسموع لديها، عبر انتاج 4 مسلسلات تلفزيونية دفعة واحدة. وبيّنت "ياهوو!" أن كل مسلسل يحتوي عشر حلقات، مدة كل منها نصف ساعة، بل خصّصت مليون دولار لهذه الخطوة العملاقة. وتكراراً، ربط المهتمون بالشأن التقني خطوة "ياهوو!" بالمنافسة مع شركة "نت فليكس". وفي خطوة أشد جرأة، أعلنت "ياهوو!" أيضاً أنها بصدد شراء خدمة "نيوز ديستريبيوشن نيتوركس"، ما يمكنها من نشر المحتوى المرئي- المسموع بصورة قويّة. وتحمل هذه الخطوة ملامح احتدام المنافسة مع "نت فليكس"، لكنها توسّع ساحة الصراع ليشمل المنافسة مع "يوتيوب"، وهو أرشيف التلفزيون على الانترنت، إضافة إلى تعزيز البعد الاعلامي الإخباري في "ياهوو!". ويفرض العنصران الأخيران ("يوتيوب" والأخبار) نقاشاً منفصلاً.
 
مرآة الحمّام... مجرد مقدّمة
إلى أين يذهب التلفزيون المهيمن حاضراً على مشهدية الميديا العامة؟ أين تحل شاشة البث الفضائي إذا طردته تلفزة الانترنت من موقعه المكين بوصفه قلب الصناعة البصرية؟ ربما يذهب إلى... المرآة! لم لا؟ في الأصل، هناك خيوط قوية بين التلفزيون والمرآة كأن يقال أنه "مرآة الواقع" أو أنه "شاشة تنعكس عليها صورة الزمن والمجتمع"، بل حتى بالتجربة البصرية الساذجة المباشرة يقترب مظهر التلفزيون من المرآة. لم لا يدخل إليها؟ لم لا يضع تماهيه معنوياً ورمزياً معها، قيد التحقّق المباشر؟ حسناً: الأمر تحقّق فعليّاً. باستعمال تقنيّة كهرباء "ليد" الخفيفة، ظهرت مجموعة من المرايا التي تتضمن مربّعاً مخصّصاً للتلفزة فيها. يميل كثيرون لتسميتها "مرآة التلفزة"  ("تي في ميرور" TV Miror). وتصنع بأيد شركات بعضها متخصّص حصرياً بها، كشركة "سيورا"، وبعضها الآخر ينتجها في سياق مبتكراته الرقمية كشركة "سامسونغ" الشهيرة. 
 
وفي مجموعة كبيرة من سلاسل الفنادق الكبرى، مثل "فور سيزونز" و"هايات" و"ريتز- كارلتون"، تحلّ التلفزة الفضائية في مرايا، خصوصاً مرايا الحمام. 


 "بيت أوراق اللعب" الفائز بجائزة "إيمي" عن فئة أعمال تلفزة الإنترنت
 
لا تهدف الكلمات إلى افتعال الطرافة، بل تلفت إلى مسار ربما ليس متفرّداً، كما قد يبدو للوهلة الأولى. ماذا حلّ بالراديو عندما طرده التلفزيون من موقعه المكين بوصفه كان في مركز القلب من الميديا والاعلام العام؟ إلى أين ذهب الراديو عندما لم يعد المنصة الاعلامية التي تصنع السلطة عبر البيان الأول لعسكر الانقلابات، ولم يعد الجهاز الذي يتجمع الجمهور حوله لسماع سهرة "الست أم كلثوم" في أول جمعة من الشهر؟ حين غادر الراديو منصب الرئيس في الميديا، ذهب إلى...كل مكان!
 
حلّ أولاً في الترانزستور، الذي تحمله الأيدي إلى الأمكنة كافة. وحلّ في السيارة، ضيفاً مرحبّاً به خصوصاً في زحام السير والرحلات اليومية إلى العمل، والسفر الطويل بين المدن. حل في اليخوت ومراكب الصيد. ودخل إلى ثنايا الأثاث في الغرف كافة، ومنها غرف النوم. دخل إلى الفضاء الافتراضي للانترنت، من دون فشل ولا نجاح كبيرين. وعلى عكس ذلك، اندمج الراديو بنجاح مع الخليوي. لم يعد الموبايل يتخلى عنه، خصوصاً موجات الـ"آف إم" المرتبطة بالإذاعات المحليّة. بمعنى آخر، لبى المعزول عن المنصب حاجة جمهور أحد وسائط المعولمة (شبكات الخليوي) إلى الملامح المحليّة. واستطراداً، هناك مساحة كبيرة للحديث عن ظاهرة العلاقة المتشابكة، والمضطربة والمؤلمة أحياناً، بين المحلي والمعولم.
 
من غير كبير مجازفة القول بأن تلفزة الانترنت، ربما رمت التلفزة الفضائية إلى مسار مشابه للراديو. لماذا الاصرار على قول تلفزة فضائية؟ ببساطة، لأنه لم يعد هناك من تلفزة من دون بُعد فضائي. إذ انتشر هذا الشيء أيضاً. ثمة استطراد مهم. صارت التلفزة الفضائية حاضراً شديدة الشبه بمحطات "أف أم"، خصوصاً بمعنى أنها تحمل البُعد المحلي، بمعنى الجغرافيا والمجتمع والثقافة، في البث المرئي- المسموع. 
 
إذاً، ما يساوي محطات "أف- أم" في الراديو صار جاهزاً، بالنسبة إلى التلفزة الفضائية. وصار الأمر يتعلّق بمرحلة انتظار، كمن يقف في قاعة الترانزيت في المطار. بانتظار ان ينقلب التابع على السيد. بانتظار أن يُرمى التلفزيون إلى زمن الشيوع ومخالطة الأشياء العادية للحياة اليومية. وصل التلفزيون إلى الساعة. وهناك أشياء كثيرة تنتظر التلفزيون ليحل ضيفاً فيها. وربما يحل التلفزيون ضيفاً مرحّباً به في السيارة، خصوصاً إذا انتشرت السيارة- الروبوت، بل ربما لا ينتظر التلفزيون انتشارها ليصل إلى مكانه المحجوز سلفاً في السيارة... بجوار الراديو!