ما يحاول "الجيل إكس" قوله

رشا الأطرش
الثلاثاء   2023/05/16
مرحباً، هنا "الجيل إكس"، يقول للكوكب إنه متعب. الجيل الذي صنع الذكاء الاصطناعي، ويخشى منه على وظائفه وحرياته وأمانه، مثلما يُدهَش ويستمتع ويضحك إزاء سِحره وصحبته وقفشاته. الجيل الذي كشفت دراسات حديثة إنه لا ينوي التقاعد في سن الـ65، إن لم يُقعِده خطب جلل ومميت، لأنه يرفض إلا أن يعي ذاته كشباب كريم حتى في كهولته العنيدة.

هنا الجيل إكس، الابن الأوسط بين "بيبي بومرز" والألفيّين الجدد. الضائع حباً ومسؤوليات، ككل طفل أوسط في عائلة مكتظة. عدد أفراده المولودين بين أواخر الستينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، أقل من مجموع آبائهم وأمهاتهم الذين توالدوا كالأرانب بعد حربَين عالميتين. فالإكس، من بين عوامل أخرى، هم النتيجة التقنينية الواعية لرواج حبوب منع الحَمل، وبذلك، فإن ولاداتهم نفسها هي ابنة ثورة علمية واجتماعية.

وهم أبناء الكومبيوتر المنزلي الخاص، وقنوات الكابل والفضائيات، والجنس الآمِن إثر صعود "الإيدز" كوباء وقضية. كبروا ومعهم مفتاح البيت، إذ عاد كثر منهم من المدرسة إلى منزل فارغ لأبوَين ما زالا في العمل، أو ربما لأب أو أمّ فقط إذ أمسى الطلاق سمة عصر مدوٍّ بالاتصالات والانقلابات الثقافية. في الغرب، كانوا ظاهرة "الأولاد البومرانغ" تيمناً بأداة الصيد الشهيرة، التي مهما كان الاتجاه الذي ترميها فيه، فإنها تعود إليك. هكذا عادت فلول إكس إلى بيوت الأهل بسبب مراحل ركود اقتصادي عديدة جعلتهم بلا عمل أو مديونين أو قليلي المداخيل. وفي الشرق، هم غالباً الذين أطالوا الإقامة في بيت الأهل قبل الزواج، أو تمردوا من أجل مهنة ودراسة ومدينة، فغادروا الأعشاش الفسيحة الخانقة ليتشاركوا شققاً صغيرة تتسع لأحلامهم مع غرباء.

هناك الكثير ما يقال عن الجيل إكس. في السياسة، شهدوا وتفاعلوا مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، واستعار حروب الشرق الأوسط حيث تمكّن الاستبداد أو عمّت الفوضى، ونزعوا إلى استقلاليتهم وفردانيتهم خارج الأحزاب والإيديولوجيات. وفي الثقافة، دانوا بالولاء -حدّ الإدمان- لقناة MTV الأميركية وبناتها العربيات على مدار الساعة، التخصص في الترفيه والأخبار كما في الحِرفة، فيديوهات الموسيقى، الراب والهيب هوب، وائل كفوري وحكيم وهشام عباس، قنابل هيفا وهبي وإليسا ونانسي عجرم، موضة اليوغا وعِلم النفس الشعبي، الأتاري و"غايم بوي" كباكورة ألعاب الفيديو، الأفلام المستقلة وأدب اليوميات وشِعر مقاهي الرصيف، وتفجّر الهويات الجندرية والإثنية والدينية.

لكن ثمة، في حَدَث الذكاء الاصطناعي، ما يلكز إكسات العالم في خاصرة طرية. إنها علاقتهم بالأشياء. أهمّ الأشياء، أو بالأحرى تلك التي تصدّرت ملامح الجيل وزمنه، وراحت تتغيّر كما تفعل بطبيعتها. وهو يتغيّر معها، ودائماً في زمنه نفسه... حتى صار التأقلم واللهاث للّحاق بالمواكب المتسارعة، إحدى شارات تعريفه الرئيسية. أشياء ثقافته، بالأساس، وكلماتها.

تحول التلفزيون من الهوائي على السطح والمفاتيح اليدوية إلى منصات نتفليكس وأشباهها، فغيّر التلفزة والدراما والإعلام، والسينما أيضاً كمُنتج إبداعي وتجربة اجتماعية في الصالة الفارهة أمام الشاشة الأحادية الكبرى. الراديو الموروث ذو الإبرة والخشخشة، صار المُسجّل المحمول وسمّاعات الرأس والأذنين والـ"سي دي" وMP3، وصولاً إلى البودكاست غب الطلب ونوازع الاهتمامات. الهاتف أبو قرص ثم الأزرار، صار الموبايل ذي الانترنت -المتتالية أجيالاً هي أيضاً!- والتطبيقات،.. ولا داعي لمزيد من شرح المُعاش. المال والتسوّق، بطاقات الائتمان والمعنى المغاير للادخار والاستثمار والمُلكية، هي تجارب الريادة لجيل إكس الذي صنع واستهلك، دمّر وتلذذ وأشبع النَّفْس والعقل والغريزة قبل البطن. الكتب والصحف والمذاكرات، عوالم الورق ترقمنت به معه ومن أجله، فشكّلها وشكّلته. ليست القراءة وحدها التي انسلخت واتخذت مسارات أقرب لما كان يوماً خيالاً علمياً، بل الكتابة أيضاً، كتابة المحترفين، وعامّة المليارات البشرية في فايسبوك وتويتر وعشرات الشبكات الاجتماعية. فلنتذكّر أن مارك زوكربيرغ (1984)  وإيلون ماسك (1971)، بكل ما ابتكراه وطوّراه وخرّباه، جيل إكس. وهما ثمرة "زواج" يمثله، أكثر مَن يمثله، ستيف جوبز وبيل غيتس (من مواليد 1955) اللذين أرسيا شبكة العالم الجديد.

هذا الجيل، في كل ما يُكتب ويُقال الآن بمناسبة انفلات روبوتات البحث والدردشة، يبدو مستغيثاً ومهتاجاً بالإثارة الجديدة في الوقت نفسه. مرتعب هو من الاستغناء عنه، من تهميشه وقمعه... وموته عملياً. وفي اللحظة عينها، مصمّم على البقاء، على خوض ذلك الصراع الذي لا يُجيد شيئاً كما يجيد مهاراته تعلّماً ومثابرة وتكيّفاً... مثل الذكاء الاصطناعي نفسه.