"راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي... فتنة ثقافة الشاحنات

محمد شرف
الأربعاء   2023/03/29
وكاتيا طرابلسي فنانة متعددة الوسائط.
قبل الحديث عن معرض كاتيا طرابلسي، في "غاليري صالح بركات"، واستيحاء من عنوانه "راجع يا ماما"، أو "راجعة يا ماما"، خطرت في بالنا أغنية زياد الرحباني "راجعة بإذن الله... إذا ما إجا شي من الله"، والتي ترِد فيها لاحقاً عبارة: "يا شعب منقلب حرٌ... كل واحد عايش عهواه". ليس لكلمات الأغنية علاقة مباشرة بالمعرض قيد الحديث، رغم الإرتباط العام، فالمعرض ذو منحى آخر، لكن العلاقة بين كلمات الرحباني والواقع المُعاش، الذي لا يغيب عن بالنا، تحضر في هذه اللحظة بالذات، لأسباب معروفة من الجميع.

على أن معرض كاتيا طرابلسي يقع في مكان غير بعيد من الواقع الشعبي، ومادته ليست طارئة، بل تمتد جذورها في تاريخ هذا البلد. إن موضوعات كالتضامن، والتكاتف، والإختلاف، والخرافات، والحب، والحياة الآخرة، تحضر في أحاديث الناس وجلساتهم. بيد أنها تحضر، كذلك، في هياكل وسائل النقل والشحن، على شكل كتابات أو "ممارسات جمالية"، يُعتبر بعضها "كليشيه"- عبارة تتكرر على شاحنات من تلك التي تنقل البضائع من منطقة إلى زميلتها، أو تجتاز الحدود إلى بلاد أخرى. عاينت الفنانة تلك الشاحنات، خصوصاً ما يسلك منها الطريق الساحلي بين بيروت وطرابلس، لتستكشف صوراً مستوحاة من خصوصيات البيئة الجغرافية والإجتماعية. وكما يبدو، من الممكن اعتبار أعمال معرض طرابلسي الحالي، بمثابة تكريم لمدينة طرابلس في شكل أساسي، لكنها في الواقع تنسحب على المناطق اللبنانية عموماً، علماً أن هذه "الجماليات الشعبية" تحضر بشكل متفاوت، من حيث كثافتها العددية، أو طبيعة مضمونها، بين منطقة وأخرى.



لكن المعرض يأتي في زمن مضطرب، وهو اضطراب صار أشبه بقدر محتوم في هذا البلد العجيب، الذي لم تعد السعادة فيه سوى الألم في وضعية الراحة، على ما يغني الشاعر والفنان الفرنسي ليو فيرّيه، ضمن سياق مختلف. وكما هو في طبيعة الحال، تنتظر الأم، أو الوطن ككل، عودة الأبناء من غربة موحشة، أو من رحلة ضمن هذا الوطن قد لا تكون نهايتها سعيدة، لأسباب كثيرة. حتى تلك الشاحنات التي تجوب الطرق طولاً وعرضاً، هي في حاجة إلى عناية إلهية، حسبما يعتقد أصحابها، كي تنجو من المصائب المتربصة بها. الخطر يكمن بمخالبه في أوتوسترادت، أو طرق ضيقة، التصقت بها خيالات الموت، نظراً لعدد الضحايا الذي لا ينخفض. ولعله من النادر أن تصادف شاحنة، أو "بيك أب"، لا تزيّنه عبارات مثل: "ما شاء الله"، "يا رضى الله ورضى الوالدين"، "الحسود لا يسود"، "عين الحاسد تبلى بالعمى"، إلى كلمات أخرى مشتقة من أغان معروفة: "كلام الناس لا بيقدم ولا بيأخر"، "القلب يعشق كل جميل"، "أمل حياتي"، إلى ما هنالك من عبارات أخرى تمثل، في مجموعها، واحدة من الصور المرئية الأكثر شيوعاً في وسائل النقل والشحن تلك، وهي مشتقة، في معظمها، من الأديان والثقافات الشعبية والمعتقدات والخرافات.

وكاتيا طرابلسي، التي فُتنت بما كانت تراه في الطرق، أرادت أن تجعل منه موضوعاً فنياً، أو بالأحرى شكلاً من أشكال التجهيز، علماً أنه من الصعب إطلاق تسمية أو صفة على المنتج المعروض، الذي نحن في صدده، كونه لا ينتسب في شكل دقيق إلى نوع فني محدد. كان همّ الفنانة الأول هو كيفية التعامل مع الموضوع من الناحية التقنية، والبحث عن طريقة تمكّنها من تحقيق الفكرة، من دون اللجوء حكماً إلى التصوير التشكيلي العادي. بعد صوغ المفهوم من خلال رسوم قامت بتخطيطها، وبعد بحث وتدقيق، تمكنّت طرابلسي من العثور على شخص في مدينة طرابلس، يمتلك خبرة في هذا المجال، فأطلعته على مخططاتها ووجدت لديه تجاوباً مع الفكرة. بدأ العمل على الموضوع، وخلال هذا العمل أرادت الفنانة إعادة إنتاج الكتابات والرسوم التي تزدان بها الشاحنات، لكن من خلال شِباك-ألواح، هي عبارة عن هياكل معدنية، كي تعالجها بطريقتها الخاصة، مستعينة بتعليمات الحِرفيين وإرشاداتهم الخاصة.



استغرق العمل على المشروع عاماً ونصف العام، بمعدل مرات ثلاث في الأسبوع، كانت كافية من أجل إحداث إحتكاك مثير بين كاتيا طرابلسي والحرفيين، استنتجت من خلاله إن هؤلاء الأشخاص لا اهتمام لديهم بالسياسة وأحابيلها، وإنهم مؤمنون من دون تعصّب، ويكنّون إحتراماً للأديان الأخرى. قامت الورشة في منطقة البداوي، حيث تم تنفيذ الشبكات-الألواح بناء على تصوّر الفنانة في ما يتعلّق بالحجم والتقسيم الداخلي للمنتج، وتُرك الباقي لأصحاب المهنة. كانت طرابلسي تدرك أن العبارات والكلمات والرسوم التي تزيّن اللوح هي أشبه بمستند هوية فريد لكل سائق، ومن خلال ذلك يمكن ملاحظة أين تبدأ المعتقدات الدينية، وكيف من الممكن أن تنتهي إلى نوع من الخرافات. كان هناك نوع من خريطة طريق يجب اتباعها، فالأبواب الخلفية للشاحنات مزينة بطريقة محددة للغاية، ويحكمها نظام معين يشبه العمود الفقري، الذي تلتصق عليه العناصر كما هي الحال في جسم الإنسان. النواة، هنا، مكرسة بشكل أساسي لإذن الله والعين الشريرة، وهي تمثل واحدة من أكثر الصور المرئية شيوعًا في هذه الشاحنات، تعبيراً عن مفهوم يعود إلى ما يقارب الخمسة آلاف عام، وقد تم تبنيه من قبل العديد من الأديان والثقافات لحماية الممتلكات الرئيسية والأحباء. كما لاحظت أن كل شاحنة تحمل اسمًا أوليًا: "محروسة"، على سبيل المثال، ويكون الاسم الأول للمرأة أعلى الباب-الشبكة، أما في الوسط فنجد الخط العربي: قصائد قصيرة من سطرين، متناغمة دائمًا تقريبًا، تتعلق بحب الله، وحب الأسرة، ومفهومَين مقدسَين (رضا الله، ورضا الوالدين) أو حب الحبيب.



هكذا، يمكن القول إن الصور الموجودة على الأبواب الخلفية لشاحناتنا تنتمي إلى التراث اللبناني، وتتحدد، على أساسها، هويات السائقين وانتماءاتهم ومعتقداتهم. هذه الهوية تُترجم من خلال تصميم زخرفي وعناصر بصرية إنعكست في أعمال كاتيا طرابلسي، التي استحدثت مدخلاً مبتكراً وغير عادي في معالجتها، وهي التي حوّلت جدران "صالة صالح بركات" إلى ما يشبه سمفونية متفردة، تمتد نوتاتها، المؤلّفة من كلمات وألوان، على شكل خط أفقي يلتف حول الصالة، ويدعو المتلقي إلى التفكر والتأمل والإبتسام في وقت واحد.

كاتيا طرابلسي فنانة متعددة الوسائط. ولدت العام 1960 في بيروت. أعمالها متجذرة بعمق في الهوية الاجتماعية والثقافية للبنان، وتعكس الكثافة العاطفية للحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها، وتشتمل غالباً على عناصر من الثقافة والتقاليد اللبنانية. عُرضت أعمالها في مراكز الفنية رئيسية حول العالم، بما في ذلك باريس ولندن ودبي والكويت وأميركا الشمالية ومعرض الأسلحة الدولي في مدينة نيويورك.

(*) يستمر المعرض حتى 22 نيسان/ابريل 2023 في "غاليري صالح بركات"، شارع كليمنصو، بيروت.