صُوَرنا.. المسروقة والمُنقَذة

رشا الأطرش
الثلاثاء   2023/02/28
رحلة مدرسية في مدينة صور (موقع أثر للحفظ والتوثيق)
خَبران لبنانيان خرجا في يوم واحد: سرقة أرشيف الوكالة الوطنية للإعلام، وإطلاق موقع الكتروني خاص بأرشيف "الكُلية الجعفرية" في مدينة صور الجنوبية.

خَبران يجمعهما رأس مال واحد، مادي وثقافي وسياسي اجتماعي، ومعنوي مرتبط بالذاكرة وإرثها، والتاريخ والتراكم. رأس مال يعني الجماعة اللبنانية وأفرادها، في ظل أزمة اقتصادية وسياسية وقضائية غير مسبوقة. ربما يراه كثر غير ذي أولوية الآن، لكن خبَرَيه، مع ذلك، حرّكا مستنقعاً ثقافياً راكداً: خبر حزين عن قيمة هي من القليل الباقي للسيرة اللبنانية الغنية، حين تكون في يد الدولة المهترئة، وآخر مبهج مصدره عناية مؤسسات خاصة وأفراد. لعلها كذلك مناسبة للتأمل في خلفيات الحزن والمفاجأة بسرقة غريبة من هذا النوع، في مقابل متعة تصفح منصة جديدة هي مشروع خاص موازٍ لدولة اللاشيء، مثل إصدارات المؤسسة العربية للصورة وغيرها من المشاريع في لبنان والعالم العربي.

مثل هذه الصور يختزل الخاص والعام معاً. مساحة مثيرة، نوستالجية وعاطفية حيناً، وقاتمة حين تؤشر إلى تغييرات لا نحبها وحصلت في غفلة منا أو رغماً عنا. صور من تاريخ مؤسسة من قبيل "الكلية الجعفرية" في الجنوب اللبناني، وكل ما جُمِع على هامشها من أبناء المدينة وذاكرة أهلهم وأحبائهم بين عشرينات وثمانينات القرن العشرين... تقول الشخصي في سياق الجَمعي: النساء السافرات في معظمهن، شكل الأبوّة والأمومة والبنوّة، أوقات الراحة واللهو والاختلاط، الصور العائلية بالغة الجدية بلا ابتسامات، وتلك التي فيها لعب وأُنس، المناسبات الاجتماعية، الأطفال الذين كانوا يُدفعون لنشاطات مسرحية وموسيقية ورياضية، حلّ محلّ الكثير منها في الجنوب اليوم، ترفيهٌ إيديولوجي وعقائدي، أو استهلاكي.

ثمة تجربة مماثلة خاضها المسرحي والكاتب يحيى جابر، في نطاق شخصي في فايسبوك، حيث دأب على نشر سلسلة من الصور تحت عنوان "فوتو حياتي"، وفيها يظهر مع فنانين وكتّاب أجرى معهم مقابلات أيام عمله في الصحافة.


هو تأريخ لحياته كصحافي فني في الثمانينات من القرن المنصرم، خلال الحرب، وخلال تأرجحه بين اليُسر المالي وعُسره، بحسب الظروف والتقلبات الكثيرة، رحلات سفره للقاهرة وغيرها، ومناسبات في بيروت سُرقت في الوقت المستقطع من الصراع المسلّح. وهنا أيضاً بوتريهات سريعة لضيوف يحيى، ولو من باب حكاياتهم معه في تلك اللحظات البعيدة، ولأساليب المقابلة الصحافية في ذلك الوقت، والإثارة بلقاء مشاهير عرب قبل زمن توافرهم على مدار الساعة في الشبكات الاجتماعية حيث يدلون بآراء في كل شيء ويغدقون صورهم. كان ذاك زمن التقنين البصري، وهالة النجم التي قلما تظهر لعموم الجمهور خارج الأداء المسرحي، السينمائي، الموسيقي، والأدبي.

في المقابل، أرشيف الوكالة المسروق، يقول بمحطات الماضي اللبناني، السياسي والفني والاجتماعي منذ العام 1961 مروراً بالحرب الأهلية عندما كانت الأرشفة ترفاً في ظل ثنائية الحياة والموت. ونغامر بإيراد التعبير الكليشيه: ميراث وطني. وأيضاً السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، ومعرفة أنفسنا ومدننا وبلدنا، عبر ما كان، وما مرّ، وسُجّل في لقطة ضوئية.


(الجالية اللبنانية في المكسيك - مجموعة خورخيه عبود شامي - عن موقع المؤسسة العربية للصورة)

وفي السياق هذا، ثمة "صدفة" مدهشة تجمع السوسيولوجيا وانتشار الفوتوغرافيا. إذ استخدم "مؤسِّس عِلم الاجتماع"، الفرنسي أوغست كونت (1798-1857)، مصطلح "علم الاجتماع" للمرة الأولى العام 1838. وبدأت تقنية التصوير الضوئي تصبح متاحة، للمرة الأولى، جماهيرياً في العالم، بفضل اختراع لويس داجير، العام 1839 واستُخدمت على نطاق واسع خلال أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر. هذا التناص الزمني لا يخلو من الرمزية والدلالة. الفوتوغرافيا، كانت ولا تزال، عدسة مكبّرة على الناس واجتماعهم في حقبات وأماكن مختلفة. ليست فقط لدراسات ثقافية، سياسية، اجتماعية أو جندرية. ليس فقط التاريخ وتأريخه.


(مُدرّس ومُدرّسات في الكلية الجعفرية خلال نشاط في الحديقة - عن موقع أثر للحفظ والتوثيق)

بل يمكننا أن نشرد في تفاصيل صغيرة، لكنها وازنة المعاني، مثلاً كسؤال: لماذا لم يبتسم الأشخاص المُصوَّرون حتى أوائل القرن العشرين؟ والحق أنه مُلفت كمّ الأدبيات الموضوعة للإجابة، والتي تُختصر في عوامل عديدة، مثل تكنولوجيا التصوير في ذلك الزمن إذ تشترط البقاء بلا حركة لوقت طويل نسبياً، بما في ذلك حركة الوجه. وهناك التأثر الذي كان مستمراً آنذاك باللوحة التشكيلية حيث يبقى الشخص ساكناً أيضاً لوقت طويل أمام رسّامه، ومعاييرها الفنية لا تحبذ الابتسام. ناهيك عن الثقافة السائدة بأن الابتسامة دليل على الخبل والسخف والحماقة. والخلود الذي تقترحه الصورة الفوتوغرافية لناسها (حتى الموتى كانت تُلتقط لهم صور وداعية أخيرة وهُم في وضعيات جلوس أو استلقاء "طبيعية")، لا يجوز تلويثه بخفة البسمة. وصولاً إلى محاولة المُصوَّرين تورية أسنانهم التي لم تكن في أفضل أحوالها قبل انتشار أساليب العناية اليومية والطبية بصحة الفم.

كل عامل من تلك العوامل مُفتتح دراسة وكتابة وحده. بل يبقى السؤال نفسه اليوم: لماذا يُحظر الابتسام في صور جوازات السفر والوثائق الرسمية؟ لأن الابتسامة عدوة الأمن، على ما يبدو. إذ لا تتيح لتقنية التعرف على الوجوه، العمل بشكل وافٍ، كونها تخربط قسمات الوجه وتحيله عصياً على الأرشفة المضادة للجريمة.

أما الابتسامة التي ظهرت باكراً في "مواضيع" أنثروبولوجيين تُعرَض صور ترحالهم والجماعات التي تعرفوا عليها في متاحف العالم، فتلك تؤكد أنهم، مثل مواضيعهم البشرية التي أرادوا التقاطها "طبيعية" ابنة لحظتها ومكانها وسرديتها الخاصة،... يبقون خارج ثقافة الصورة المُهندَسة للذكرى والبقاء، والتي سعى إليها صاحبها ومُلتقطها معاً في ذروة الافتتان بأوائل أشكال الكاميرا.

والحال، أن ثمة أرشيفاً لبنانياً في يد الدولة، مهدداً دائماً، على ما يبدو، بالتلف أو الضياع أو إساءة الاستثمار كما سبق أن حصل مع أرشيف "تلفزيون لبنان". وثمة أرشيف مُنقَذ، في بيوت الناس وصفحاتهم الالكترونية، وبهمّة قطاع خاص صغير متخصص.. وهذا غالباً أمر يدعو للابتسام، أمام الكاميرا وخلفها.