أحمد فؤاد نجم في محكمة ابنته نوارة..المتّهم الأبديّ

أسامة فاروق
الأحد   2023/02/26
أعطى ساويروس نجم تلفون محمول ليتواصل معه فباعه
في فجر يوم الخميس 2 يناير عام 1975، ألقي القبض على الشاعر أحمد فؤاد نجم بتهمة الانتماء إلى تنظيم سياسي ماركسي، يهدف لقلب نظام الحكم في مصر عن طريق إثارة الطلبة والجماهير.


لم تكن المرة الأولى بالطبع ولن تكون الأخيرة، حيث ظل نجم على هذا الوضع طوال الفترة من 69 وحتى 77 حين قُدِم إلى محاكمة حكمت عليه بالسجن لمدة عام على خلفية إصداره قصيدة "بيان هام". لكن كان هناك متغير وحيد في تلك المرة هو وجود طفلته "نوارة" معه في الحجز، ولم تكن قد أكملت عامها الأول، وهو ما تسبّب في ثورة نجم المعتاد على السجون، فسجل ربما لأول مرة ملاحظة شخصية عندما سأله المحقق: هل لديك أقوال أخرى؟ وكان دائما ما يجيب بإجابات تحمل في طياتها تعليقات في غاية الجرأة، لا تقلّ عما جاء في أشعاره التي يحاكم بسببها، كضرورة إنهاء هذه التحقيقات العبثية معه لأنه شاعر وليس لصاً وأنّه لا يكتب شعراً مناهضاً للسلطة "إلا إذا كانت السلطة تناهض الشعب المصري"، لكنه هذه المرة قال: أنا أسجل هنا في محضر النيابة، المعاملة غير الأدمية التي تعرضت لها أنا وزوجتي وطفلتي البالغة من العمر 14 شهراً، فقد اعتقلت هذه الطفلة معنا عند الضبط، واحتجزت معنا في دورة مياه لمدة عشر ساعات، حتى كادت تختنق.

بتنا نعرف بالتحديد ما قاله نجم في التحقيقات، وأيضاً ما قالته زوجته وقتها الكاتبة صافي ناز كاظم بسبب البحث العميق الذي قام به الكاتب الراحل صلاح عيسى في الملفات القضائية وسجله في كتابه "شاعر تكدير الأمن العام"، وبسبب ما قاله وحكاه نجم نفسه طوال الأعوام السابقة. لكن ماذا عن الطفلة؟ ربما اختزن عقلها الصغير تلك المحنة المبكرة، لأنه حينما جاء دورها لتتحدّث اختارت أن تبدأ بوقائع مشابهة، تستدعيها بوعي اللحظة الحالية وتقول بذكاء شديد إنها مدفونة بشكل عميق جدا داخل ذاكرتها، لذا فإن ما تستدعيه ليس تسجيلا حرفياً ولكن استدعاء لذكراها وليس لها.

تفتح لنا نوارة نجم في كتابها "وانت السبب يابا/ الفاجومي وأنا" الصادر مؤخرا عن دار الكرمة (القاهرة)، نافذة أو ربّما أكثر قليلاً لنطل على حياة عائلة غير عادية في أدق لحظاتها وأكثرها حساسية. تسجيل من زاوية مغايرة لحياة واحد من أبرز الشعراء المصريين، "الشاب الأبدي، الطفل الأبدي، الأمل الأبدي" كما أسمته في كلمة كتبتها بعد فوزه بجائزة الأمير كلاوس، ونضيف على توصيفاتها: المشاغب الأبدي والمتهم الأبدي، الذي اتهمته بلاده بكثرة حضوره وتتهمه ابنته بكثرة الغياب.


محاكمة علنية

حددت نوارة نجم 4 أسباب حسمت ترددها في الكتابة عن والدها، أولها أنها تحبّ الكلام، ولأنها ستساعدها وتساعد غيرها بشكل ما، ولأنه -نجم- يستحق الكلام والكتابة عنه "لأنه مهما كتب عن نفسه فستظل الصورة ناقصة ما لم يكتب عنه شخص منزه عن العدوات". لكن هل هي كذلك فعلا؟ تجيب قبل أن يتشكل السؤال في ذهن القارئ فتقول إنها تحبّه لكنها ليست منحازة إليه، والكتاب كله دليل على صدق ما تقول، فهو في المجمل يشبه محاكمة علنيه لنجم الأب الحقيقي لا المجاز الذي استعمل واستهلك في أحداث ثورة 25 يناير وما تلاها، من ابنة واعية تدرك أننا بشر لا ملائكة منزهين عن الخطأ "هو يعلم أني أحبه، ويعلم أني أقدر قيمته كشاعر، ويعلم أني أقدر قيمته كإنسان. انتقادي لصفات، هو نفسه يراها سلبية، أو لقصائد كتبها، يعني أن تقريظي لخصال وقصائد أخرى يأتي مخلصاً وصافياً ومنزهاَ عن الأغراض".

المحاكمة الأسرية ليست مجازاً وهمياً هنا، بل يحيل إليها عنوان الكتاب نفسه وهي شطرة في قصيدة كتبها نجم لمسلسل تلفزيوني شهير هو "حضرة المتهم أبي"، وكانت نوارة نفسها السبب في كتابة تلك الأبيات، تقول إنه تلقى سيناريو المسلسل لكتابة مقدمته ونهايته وسط جلسة لوم "كنت أمر بنوبة اكتئاب شديدة، وكنت دوما أؤنبه، وظللت ألومه لأنه أنجبني، ولأنه يتعامل مع الإنجاب بلا اكتراث، ولأنه تزوج فولدت زوجاته بنات كلهن تعيسات"، فكتب نجم قصيدته الشهيرة وبدأها بـ: نازل وأنا ماشي/ ع الشوك برجليا/ وانت السبب يابا/ يا اللي خليت بيا. ثم كتب في قصيدة النهاية ما يشبه الرد والاعتذار: حقك على عيني/ يا ابني يا نور عيني/ لاجل الوفا بديني/ لك عندي بعض كلام/ أنا كنت وحداني/ والدنيا واخداني/ عايز ونيس تاني/ يقاسمني في الأحلام/ غريب وأنا في بلدي/ جبتك تكون سندي/ انصفني يا ولدي/ وأصبر على الأيام.

والحقيقة أنّ الابنة صبرتْ وما محاكمتها العلنية الحالية إلا محاولة للتطهر مما علق في الذاكرة من أحداث مؤلمة، يكفي أنها قضت خمس سنوات في طفولتها المبكرة تسمع صوته وترى صوره وأغانيه فقط، ثم أمضت ثلاث سنوات أخرى تبحث عنه، ثم وهي في العاشرة يسافر ليقضي خمس سنوات يجوب بلاد الله، ويتزوج ويطلق ويتشاجر مع الشيخ إمام، ثم يظهر مرة واحدة فلا تعرف لماذا اختفى ولا لماذا ظهر.


ارتباك

طفولة مربكة جداً عاشتها نوارة بدأتها بالبحث عن والدها في أقسام الشرطة والسجون والنيابات، وحتى عندما يسترد حريته ويخرج يغيب أيضا ويصبح العثور عليه من المستحيلات، أما نزهاتها فكانت في حزب التجمع ونقابة الصحافيين والندوات الشعرية وعروض المسرح التجريبي! بنت علاقتها معه على البعد وارتبطت بصوته عبر أجهزة التسجيل بعد هجرة قسرية لها مع والدتها للعراق أعقبها انفصال رسمي للزوجين لتبدأ مرحلة أكثر تعقيداً. أتقنت نوارة استدعاء فترة الطفولة إلى حد أننا نكاد نسمع صوتها الطفولي في التسجيلات التي كانت ترسلها لوالدها من العراق، لنفهم أثر تلك المرحلة بكل أحداثها على وعي تلك الطفلة وحتى على المحيطين بها، تلخص الأمر في ارتباك حتّى أقرب صديقاتها "فهي لا تعلم هل أنا دون المستوى لأن أبي يسكن في حارة وأهلي رد سجون، أم أنني فوق المستوى لأن أبي شاعر كبير وصديق سعيد صالح وأمي حفيدة شاه إيران وصديقة سعاد حسني"!


الكثير من الأحداث التي ترويها عن فترة الطفولة يمكن اعتبارها مناكفات أو مشاغبات بين طفلة عنيدة ووالدها، كتعليقاتها الساخرة على نوعية أصدقائه، وحبّها لصلاح جاهين وقراءتها لشعر الأبنودي (رغم خلافه التاريخي معه) أو تشجيعها للزمالك رغم معرفتها بعشقه للأهلي مثلاً، لكن من أول المعارك الحقيقية التي خلفت ندوباً هي معركة الحجاب، كانت لاتزال طفلة ولم تكن والدتها قد ألزمتها به بعد، وحتى تتمكن من حضور حفلة لوالدها والشيخ إمام ألبستها والدتها ملابس ثقيلة ولأنها كانت مريضة لفت رأسها بطرحة تشبه الحجاب، ولم تستجب لاعتراضاتها. الاعتراض الأكبر كان من نجم الذي رفض أن تظهر على المسرح به فجلست على طرف المسرح تغني وحدها. المؤلم في الموقف كله كما تفسر إن والدتها لم تكن تريدها أن تتحجب في ذلك الوقت فقط أرادت أن تستخدمها لتستفز بعض اليساريين الذين هاجموها حين علموا بزواجها من نجم، كما كانت تعلم أن والدها أيضا لم يكن ضد الحجاب لكنه شعر بالحرج بسبب وجودها به وسط جمهور يكره الحجاب فحاول إرضاءهم على حسابها "كان شيئا مؤذيا جدا منها وقاسيا جدا منه! فلا هي كانت محقة في استخدامي "عشان يتغاظوا"، ولا هو كان محقا في معاقبة أمي عن طريقي، واستخدامي كان مؤذياً، والمشاحنات بينهما كانت ذنباً في حقي، وكان عليهما الاعتذار عنها لا معاقبتي عليها وبها". ارتدتْ نوارة الحجاب فعليا قبل بلوغها الثانية عشرة بثلاثة أشهر، تروي القصة في كتابها بحسرة وتصف بدقة مشاعرها المختلطة في تلك الفترة وتقول بوضوح: "لم أرغب في ارتداء الحجاب" لكن الأهم أنه -نجم- "لم يكن موجودا ليساندني، ولم يتدخل أحد لإنقاذي".

وجه آخر

1995 كان عاماً فاصلاً في حياة نوارة وكشفت أحداثه وجها آخر لوالدها ولعلاقتها به، تظاهرت نوارة ضد مشاركة الكيان الصهيوني في المعرض الصناعي في القاهرة وألقي القبض عليها وسجنت حوالي أسبوعين، صحيح كانت فترة قصيرة لكن أحداثها وما رأته غيّر الكثير من أفكارها وقناعتها ليس على المستوى العام فقط ولكن حتى على مستوى الأسرة نفسها، كانت والدتها أكثر قوّة وتحملاً واستعداداً فيما انهار نجم تماماً وهو ما لم يكن متوقعاً. عرفت نوارة من زوجته إنه ظل يبكي ويقول في مونولوج حزين جداً: "هما مش هيسيبونا في حالنا بقى؟ كل اللي دفعته ما كنش كفاية؟ هو أنا جنيت عليها؟ ليه خلفتها؟ عشان تيجي في الدنيا تتبهدل زي ما أنا اتبهدلت؟ السجن وحش يا أميمة! السجن وحش! أنا عمري ما قلت.. عمري ما قلت إن السجن وحش.. بس هو وحش أوي أوي.. إنت شفتي نوارة؟ دي تستحمل؟ لو هو وحش عليَّ دي تستحمل؟".

في 2011 مع أحداث الثورة يظهر مجدداً وجه نجم الآخر، الشاعر الذي ألهبت كلماته حناجر الثوار وشارك هو نفسه في كثير من أيامها، يبكي لتعود ابنته من الميدان، ويزداد توتره كلما سمع طلقات الرصاص، تلخص نوارة الفترة كلها فتقول: "مرّت أحداث الثورة، أنا في الشارع، وأبي يبكي لأمي، وأمي توقظني كي ألحق الناس، والدكتورة رضوى عاشور تستلمني في الميدان، وتطمئن أمي أنني تحت عينيها". لا تجمّل نوارة وجه والدها ولا ترى أن تصرفاته تلك تنتقص منه، تقول بصراحة إنه "ليس سياسياً، هو شاعر، شاعر مصري متألم، حزين، غاضب، ساخر"، بل على العكس تعود لتؤكد إنه لا يفطن شيئا عن السياسة ولم يدعّ ذلك يوما فكل ما يهمه هو الناس البسطاء الذي ينتمي إليهم، هو نفسه قال ذلك أكثر من مرة ومسجل في التحقيقات التي جرت معه، هذه هي السياسة بالنسبة له، وهذه هي الوطنية، مريض بحب مصر كما تقول ابنته وفي نفس الوقت ليس لديه أسباب لهذا الحب بحسبة المصالح كما تعود لتضيف، هو كما تصفه مجرد طفل يتيم انتمى في يوم ما إلى أكبر عائلات الشرقية، ذات التاريخ القديم جدا، والأملاك الشاسعة الواسعة، بعد وفاة والده وبسبب تمييز غير مفهوم من العائلة لا تجد أمه ابنة العمدة ما يكفي قوت أبنائها، فترسل به إلى الملجأ ليقضي تسع سنوات عجاف.. لم ينل حظّه من التعليم ولم يجد فرصة للتنفيس عن مواهبه إلا في السجن! "فقير ومحروم ومغبون ومتألم -على الرغم من السخرية المستمرّة- قضى عمره على مآدب اللئام".

تركيبة غريبة

كثيرة هي الحكايات التي تبرهن بها نوارة على أن والدها "تركيبة غريبة" ليس منها فقط أن يتهرّب من مواجهة اعتقالها ثم يجلس ليبكي وحده، أو توسّطه لحل مشاكل أصدقائه وانتقاده لتصرفات يفعل أضعافها، لكن أهمها هو عشقه للكادحين وللفقراء بطريقته الخاصة "كان يلحّ على امتداحهم بما يعده غيره نقائص يجب أن تستر أو تنتقد. هو يرى في أقبح مثالبهم جمالا لا يضاهى بأي جمال" تلك التركيبة هي ما تجعله يلومها على محاولة فضحها لصديق كان يسرقه، بل ويدافع عنه "دا بائس لدرجة إنه بيسرقني أنا"! ويقول لزوجته التي اكتشفت أنه صرف نصف مكافأة برنامج استضافه في لبنان على السائق الذي رافقه إنه ربما دعي للبرنامج من أجل ذلك، وأن الله ربما أرسله خصيصا من أجل ذلك السائق.

حبه للفقراء امتد حتى لمن يعطف عليهم ويساعد جيرانه في مساكن الزلزال، لذا امتدت صداقات نجم لبعض رجال الأعمال، صداقات أثارت الكثير من الجدل واللغط، تشير نوارة إلى أشهرها وهي علاقته برجل الأعمال نجيب ساويرس، تقول إنهما كانا ببساطة أصدقاء، كان رجل الأعمال يحب الشاعر والعكس، والعلاقة بدأت باتهام نجم لساويرس بأنه كان وراء إغلاق صحيفة الدستور، وحاول رجل الأعمال بكل الطرق نفي التهمة عنه، أعطى نجم تلفون محمول ليتواصل معه فباعه، فاضطر للحضور بنفسه وجلس معه وبدأت صداقة امتدت آثارها لما بعد الرحيل حين قرر إطلاق جائزة تحمل اسمه وتحويل منزله إلى متحف لم يفتتح حتى الآن.

كانت أزمة نوارة مع والدها طوال حياته إنه دائم التحرّك وأنها دائمة الركض خلفه "أرجو من أي أب ألا يعرض ابنته أو ابنه لهذا، فهذا ليس عظيماً، ولا لطيفاً، ولا مضحكاً، ولا براقاً، ولا فاتنا" بعد رحيله وجدت الفرصة أخيراً للهدوء والمراجعة، واكتشفت مع الكتابة إنها تحبّه حتى وإن تشككت في بعض اللحظات إن كان يبادلها المشاعر نفسها. تقول إنّ التواصل بينهما استمر حتى بعد الرحيل، واستمرت في استقبال رسائله التي تأتيها عبر آخرين لا يعرفونها يخبرونها بأنهم رأوه وأنه يبلغها اعتذاره "وقد قبلت الاعتذار".