سوريا تخسر مثقفين وثقافة

بشير البكر
الإثنين   2023/02/13
شوقي بغدادي
رحل خلال أقل من شهر، أربعة مثقفين سوريين، أصحاب دور وأثر في الثقافة السورية، التي تعيش حالة استنزاف منذ الثورة على النظام في مارس/آذار 2011. الأول هو المترجم من اللغة الاسبانية إلى العربية رفعت عطفة، والثاني هو الشاعر والأكاديمي نذير العظمة، والثالث هو الشاعر شوقي بغدادي، والرابع هو المترجم عن اللغة الروسية إلى العربية نزار عيون السود. وعكست المقالات والمرثيات التي حظي بها هؤلاء في وسائل الإعلام التواصل الاجتماعي، مقدار الضرر جراء خسارة سوريا رأس مالها الرمزي، الذي تكون على مدى القرن الماضي، ومكّن هذا البلد من دور وحضور متميزين على المستوى العربي والعالمي.

القاسم المشترك بين الراحلين الأربعة هو أنهم يعيشون داخل سوريا، ولم يخرجوا منها على غرار أعداد كبيرة من الكتاب والمثقفين والصحافيين، الذين اختاروا قرار الرحيل، على نحو خاص في العقد الأخير، لأسباب مختلفة، بعضها سياسي والآخر اقتصادي. وبالتالي فإن كلاً من هؤلاء الأربعة، شاهد من زاويته وموقفه السياسي على مرحلة تاريخية مرت بها سوريا خلال العقد الأخير، ويمكن لنا اليوم، أو بعد مرور وقت كاف، أن نطالع من خلال الآثار التي تركها هؤلاء وغيرهم، وجوهاً من ثقافتنا السورية، التي واجهت محنة ذات طبيعة خاصة، وهزة عنيفة لم تعهدها عبر تاريخ تكونها وتطورها.

شاعران ومترجمان من ضفاف مختلفة، يعبّر ما تركوه لنا إلى حد كبير عن المشهد الثقافي السوري خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وإذا صح أن نعتبر، إلى حد ما، الرثاء الذي كان من نصيب كل من هؤلاء مؤشراً ثقافياً بعيداً من المجاملات، فإننا لا نقف فقط عند مقدار الخسارة التي خلفها غياب كل منهم، بل يمكن لنا أن ندرك القيمة الثقافية لأثرهم ودورهم في رفد وإغناء ثقافتنا، فالمترجم رفعت عطفة يعد من بين أهم الذين ترجموا باهتمام وأمانة وحب من اللغة الاسبانية إلى العربية، وتخصص بترجمة الأدب الاسباني الذي تجنبه المترجمون العرب المعروفين مثل صالح علماني، ممّن سحرهم أدب أميركا اللاتينية الجديد، وشغلهم عن الأدب الاسباني، الذي يعد أحد الآداب الأوروبية المهمة على مستوى الرواية والشعر والنقد الأدبي والمسرح، وهو يتميز بخصوصية عن بقية الآداب الأوروبية بأنه قريب من العرب، بسبب العوامل التاريخية، والقرب الجغرافي والاختلاط الدائم مع المغرب المتميز بهوية ثقافية راسخة. وهناك عامل إضافي ذو أهمية، وهو ان اسبانيا عاشت وضعاً سياسياً استثنائياً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى مطلع السبعينيات، بسبب الحكم العسكري الديكتاتوري بقيادة الجنرال فرانكو. وكرّس عطفة، أربعة عقود من حياته لينقل إلى العربية أكثر من سبعين كتاباً، من أهمها إعادة ترجمة رواية سرفانتس "دون كيشوت"، بالإضافة إلى ترجمة أعمال خوان غويتيسولو، أنطونيو غالا، إيزابيل ألليندي. ولا ينتهي دور عطفة عند الترجمة، فقد ساهم في بناء جسور بين الثقافتين الاسبانية والعربية، من خلال تأسيس المركز الثقافي السوري في مدريد العام 2004 وإدارته حتى العام 2008، وكان قبل ذلك مديراً للمركز الثقافي في مدينته مصياف لمدة أكثر من 15 عاماً، كان خلالها المركز إحدى نقاط الضوء في الحياة الثقافية السورية.

أما خبر وفاة الشاعر نذير العظمة، فلم يحظ بالاهتمام الإعلامي الذي يستحقه، وذلك لأسباب مختلفة، منها هو أنه من جيل بعيد تفصله مسافة زمنية مديدة من أجيال الثقافة السورية الراهنة. فهو أحد القلة المعمّرين من جيل الرواد في الحداثة الشعرية، أسس مجلة "شعر"، وكان له دور أساسي في الفترة الأولى من خلال ربط صلات بين حلقاتها، وتحديداً بين يوسف الخال وأدونيس اللذين شكلا رأس عربة قيادة القاطرة، قبل أن يلتحق البقية مثل محمد الماغوط والسياب وشوقي أبو شقرا وفؤاد رفقة وأنسي الحاج. وهناك أسباب أخرى منها أن العظمة أعطى العمل الأكاديمي اهتماماً أكثر، ولأجل ذلك عاش فترات مديدة خارج سوريا، في الولايات المتحدة، والسعودية ولبنان، عدا أنه بقي محسوباً على الخط السياسي المؤيد للنظام، بسبب انتمائه للحزب القومي السوري، الذي ظل في عضويته، على خلاف بعض رفاقه من الكتاب الذين غادروا هذا التيار باكراً مثل الماغوط وأدونيس.

وعلى خلاف العظمة، بقي شوقي بغدادي قريباً من كل الأجيال، فهو عاش داخل المعارضة السياسية والثقافية، وعرف السجن باكراً بسبب انتمائه للحزب الشيوعي، لكنه تحرر من العقلية الستالينية، وصار منذ أوائل السبعينيات أحد المثقفين الذين يقفون بقوة في صف الحداثة والتغيير، ومن بين الداعمين لمشاركة جيل الشباب في الحركة الثقافية. ومن موقعه في عدد من المنابر التي اشرف عليها، ساهم في بروز أسماء كانت تعاني التعتيم والاقصاء من قِبَل شِلَل ثقافية وسياسية عملت على منع ولادة ثقافة نقدية جديدة. وامتاز بغدادي بجرأة في الموقف والنص، رغم المساحة الضيقة التي أتاحتها السلطة، وهذا ما حفظ له مكانة خاصة بين الكبار الذين عاشوا حالات الثقافة السورية في النهوض والهبوط، والتقدّم والتراجع في مراحل مختلفة، وبذلك يُعدّ فريداً من نوعه مثله مثل زكريا تامر.

ويمكن أن نعدّ المترجم والاكاديمي نزار عيون السود، بين الوجوه التي ساهمت في نقل الثقافة الروسية إلى العربية. فهو يتحدر من أسرة ثقافية على صلة بالكتابة السورية الحديثة، التي ساهم التيار اليساري في أخذها نحو الحداثة، بفضل انفتاحه على التيارات الجديدة، وتأثر بعض كتابه بالثقافة الروسية، التي احتكوا بها مبكراً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتفرغ بعض هؤلاء لنقل أعمال الكتاب مثل ديستويفسكي، تولستوي، غوغول، إلى العربية. وظهر تأثير هذا التيار في المسرح خصوصاً، اذ ساهم بعض الدارسين في الاتحاد السوفياتي السابق، بنقل خبرات ومعارف وأساليب مسرحية، كان لها أثرها في بناء معهد عال للفنون المسرحية، يعود له الفضل في تكوين دراما سورية متطورة.

وفي الختام يشكل موت الكاتب والمثقف، خسارة لأنه لا يمكن تعويضه. في وسع أي مؤسسة أن تجد بديلاً لمطور ناجح، لكن من المستحيل إيجاد بديل عن الشاعر والروائي والمسرحي والناقد الذي يرحل، بل يظل مكانه فارغاً على الدوام. وخسارة الثقافة السورية مضاعفة في ظل مغادرة أعداد كبيرة من المثقفين للخارج، وصمت أعداد أخرى في الداخل بسبب القمع، ومن ثم انهيار الدولة التي كانت توفر المجال الثقافي العام. وهذا وضع كارثي لا يقتصر ضرره الفادح على سوريا وحدها، بل باتت تتشارك فيه بلدان عربية مثل العراق، لبنان، وفلسطين، بما ينذر بتحولات كبيرة تمس هوية هذه المنطقة، التي بقيت الثقافة، على الدوام، من مقومات قوتها وتماسكها، وسلاحها بوجه الديكتاتورية والطائفية والاحتلالات الأجنبية.