"رائحة الوقت" لهاشم مطر: أحداث موازية لتاريخ عراقي

شاكر الأنباري
الخميس   2023/01/12
الزمن في رواية هاشم مطر كان يكرر نفسه
مريم هي الشخصية الرئيسية في رواية "رائحة الوقت" لهاشم مطر (500 صفحة)، بدأت مراهقتها في أسرة عراقية عادية، انشغالاتها تنحصر بالدراسة، والعشق من بعيد، وأخبار الجيران وأصدقاء المدرسة. تاريخ عادي جداً ينساب بهدوء حتى حدثت المأساة. مأساة فردية للوهلة الأولى، وفي الوقت ذاته جماعية هدمت تماسك مجتمع، وذاكرته، وانتماءاته الفرعية. 

يبدأ تاريخ الأحداث عند تهجير العائلات العراقية في نهاية السبعينيات وبداية الحرب العراقية الايرانية. وكانت عائلة مريم واحدة من تلك العوائل المهجّرة إلى إيران في ما عرف سلطوياً بـ"التبعية". ومريم هي الرابط العام لكل الشخصيات والأمكنة والأحداث التي تناولتها الرواية، ويمكن في حساب بسيط معرفة أن مسار الزمن الروائي يمتد أكثر من عشرين سنة، بدأته مريم مراهقة في مدينة من مدن العراق، قد تكوت بعقوبة بلدة الكاتب أو بغداد عاصمة الجميع، لتنتهي في مدينة كوبنهاغن عاصمة الدانمارك عبر معاملة "جمع الشمل" مع زوجها المقيم في تلك المدينة. 

الأمكنة لا تبدأ في العراق ثم تنتهي، بل تمتد إلى رحلة الخروج القسرية التي أجبرت تلك العائلات عليها من قبل قوى الأمن، عبر مهانات وفظاظات انتقامية وجبال ووديان موحشة عند الحدود. ثم تمتد إلى مخيمات اللاجئين في إيران، لتتواصل نحو دولة عربية، ربما هي سوريا أو لبنان، ثم باريس وكوبنهاغن حيث استقرت مريم أخيرا مع عائلتها. حكاية جمع الشمل لها دروب ودهاليز بين المدن وأروقة السفارات والطائرات والمخاطر فيها، لتشمل ما ينتج عن كل ذلك من التباين بين بيئتين، بلاد الأم وبلاد المهجر. رافق ذلك توالد شخصيات بعضها من بعض كما قرأنا في ألف ليلة وليلة، شخصيات بعضها أوربي وبعضها عربي، مع هواجس مكثفة حول الهجرة ومواجهة ما هو جديد، وغامض، ومختلف. 

اشتغال الكاتب هاشم مطر كان اشتغالاً روائياً متواتراَ، عبر عشرات الشخوص متعددي الثقافات والمشارب والهموم، إذ يعتمد في كل ذلك على التحليل النفسي والروحي للشخصيات كلها: الرئيسية والثانوية، وحوارات بين الشخصيات، واستبطانات مع النفس، وجمل قصيرة تتابع حركة الأحداث والشخصيات في المكان والزمان، مع تداعيات تفرضها الحالة النفسية وتكرار المواقف وتداخل المصائر. تفاصيل تقتنصها جمل الكاتب بلا تعب، لتتخلق حركة مندفعة بشكل دائم نحو النهاية في متون السرد. 

والزمن في رواية "رائحة الوقت" كان يكرر نفسه، ماضياً وحاضراً، تبعاً لحالة كل شخصية وتداعياتها الذهنية. حيث تستعاد الأمكنة السابقة، وتستعاد معها شخصيات كانت منسية، ومواقف مختبئة في ذاكرات تتقلب في الأمكنة ذاتها التي ظنت أنها تجاوزتها وغادرتها إلى الأبد. الزمن المستعاد هو تمظهر حتمي لتعلق الشخصيات بالماضي نتيجة الغربة، والاحباطات، والتكيف المرتبك مع البيئات الجديدة. لا لبطلة الرواية مريم وحدها، بل لمعظم الأشخاص الذين مرقوا في سيرتها وتقاطعت مصائرهم مع مصيرها. وهي حالة معظم المهاجرين والمنفيين والمغتربين في العالم. ولا يقتصر الأمر على العراقيين، بل ظاهرة عامة تعيشها البشرية خاصة في العقود الأخيرة من الكوارث، والحروب، والاهتزازات الاجتماعية. وقد شكلت سمة حضارية لكل فرد على الأرض. 

نعم هو تعلّق محموم بالماضي كأمكنة، وروائح، وأطعمة، وقصص حب، وخيانات، وطقوس حياتية، وأحداث سياسية عاشتها منطقة الشرق الأوسط. كان أبرزها الحرب العراقية الإيرانية، ومشكلة الأنظمة الديكتاتورية، وثقل القمع النفسي والجسدي المتفشي في تلك الدول. حتى جاءت الرواية كما لو أن الكاتب أراد منها خلق تاريخ آخر مواز للتاريخ الرسمي المعروف، لما عاشه بلده العراق، وما عاشته بلدان قريبة منه. تاريخ مواز مأساوي الجريان قاد لاحقاً إلى مستنقع الكوارث التي تعيشها المنطقة.