مازن معروف يكتب أولاداً بأسماء أخذوها من الشوارع

المدن - ثقافة
الإثنين   2022/07/04
يوميات تعبّر عن مزيج فريد من الأحلام، الخوف، وانتظار حدوث شيء ما.
تصدر قريبًا المجموعة القصصيّة « كيومٍ مشمس على دكّة الاحتياط» للكاتب الفلسطيني مازن معروف عن دار هاشيت أنطوان/نوفل.

وقد جاء في النبذة:
كتابٌ واحد تجتمع فيه ذاكرة الحرب مع حاضرها ومستقبلها، أما أبطال القصص فمن الطفولة لكنهم يفكّرون كالكبار. يمكن قراءة كلّ قصّة من المجموعة لوحدها، ويمكن قراءة المجموعة كما لو أنّها قصّة واحدة ومتسلسلة. لا فرق، إذ تتوالى الأحداث بسرعة وتنتقل بسلاسة بين الفصول، ويبقى الخيال ركيزتها الأساسية. هكذا، سنقرأ عن أولاد يحملون أسماء أخذوها من الشوارع التي نشأوا فيها، ويستعرضون يومياتهم بعد نهاية القتال الأهلي في بيروت، فيكتشفون الملاكمة والدراجات الهوائية والرصاص وغرفة الكراكيب. يوميات تعبّر عن مزيج فريد من الأحلام، الخوف، وانتظار حدوث شيء ما.

الفصل الثالث من حرب الدوبليرز
طلقات
أفلتَ منّي الدفتر في تلك اللحظة كأنّ يدًا ما اختطفتْه ورمتْه في الهواء إلى فوق. مددت يدي لألتقطه، فرأيت جسمًا صغيرًا يلمع متّجهًا صوبي مباشرةً. كانت رصاصة. نازلة من السماء وسريعة كأنّها تنزلق على خيط موصول برأسي. وددت الالتفات صوب أمّي لإلقاء نظرة أخيرة عليها والتبسُّم مثلًا. لكن لم يكن هنالك وقت لأرمش حتى. فبالنظر إلى سرعة الرصاصة، مؤكّد أنّها ستخترق رأسي قبل خفقة قلبي التالية. حبست أنفاسي وأزحت بؤبؤيّ لأنظر على الأقلّ إلى شيء آخر. وفي تلك اللحظة... اللحظة التي كان يُفترض بالرصاصة فيها أن تخترق جمجمتي، اجتاحتني قشعريرة مِن رأسي إلى أخمصي قدميَّ، لأسمع بعدها يدين تصفّقان مرّة واحدة... التَفَتُّ. لدهشتي، كانت سعيدة. «غبيّ!»، قالت... «كان يمكنك الانبطاح على الأرض». «الطلقة كانت سريعة جدًّا... لم أستطع»، قلت. «كان يمكنك تفاديها... فقد أتيح لك رؤيتها وهذه فرصة ذهبية لكنّك أخفقت». «آسف...»، قلت. «انظر»، قالت وهي تشدّني إلى الخلف. كنت لا أزال أنظر إليها. استدرتُ إلى حيث أشارت بعينيها، فرأيت الرصاصة. كانت معلّقة في مكانها في الهواء ملّمترات عن رأسي. مدّت سعيدة يدها وقطفتها كما لو أنّها حبّة عنب ثمّ كدشتْ نِصفها. «يممم... طعمها كالكراميل بملح البحر. لذيذة جدًا. هل ذقتها من قبل؟». «لا»، قلت ولعابي يسيل، مضيفًا في تشوّش واضح «لا أحد يأكل الرصاص... أنتِ تستخفّين بي». «هذا لأنّك لم تحاول. خذ... حاذر فهي ساخنة. قد تلسع سقف حلقك. فهي تذوب حين تضعها في فمك»، قالت وهي تناولني نصف الرصاصة الآخر. أخذتها من دون أدنى تردّد كأنّني فعلت ذلك عشرات المرّات من قبل ووضعتها في فمي. كان طعمها لذيذًا بالفعل. اكتشفت زيادة عن ذلك أنّي أتضوّر جوعًا. «كلّ ما عليك فعله هو أن تصفّق بيديك مرّة واحدة مثلما فعلتُ... فتتوقف الطلقات النارية مكانها في الهواء. نتناولها بأيدينا ونأكلها. ثلاث رصاصات تعادل وجبة طعام. تعال... سأعلّمك كيف تستشعر مكان الطلقة. كما أنّنا بأكلها ننقذ الأرواح... سيكون هذا على الأقلّ تكفيرًا لك عن كلّ أفعالك المُخجِلة بي...». «أنا فقط لم أكن أريد مغادرة الحيّ...»، قلتُ شاعرًا بالخجل. «لست مستاءة منك... فقد نقلتُ إليكَ تبوُّلي اللاإرادي». «تبوّلك اللاإرادي؟». «نعم. ألم تصِرْ تتبول كلّما تخانقت مع أحد؟ لقد كان ذلك منصفًا على الأقلّ... والآن تعال معي... ألا تريد تذوّق المزيد من الرصاص؟»، قالت. مشيتُ مع سعيدة مبتعدًا عن المكان. كانت أمّي لا تزال في الخلف، لكنّي لم ألتفت نحوها ولو بنظرة. الرغبة في أكل الرصاص سيطرت عليّ بالكامل. 

أمضينا بقيّة اليوم نطارد الطلقات النارية. تذوّقنا رصاصًا بمختلف الأحجام والأنواع. رصاص بكر. أمشاط. مُرَوَّس. مُدَبَّب. 2.3 ملم، 5.7 ملم، 10.5 ملم، 6 ملم، 11.6 ملم... فردي. بوليسي. عسكري. متفجرّ. مضادّ للدروع. رصاص قنص. أميركي. ألماني. إسباني. سويدي. إسرائيلي. سويسري. صيني. روسي... من كلّ شيء. علّمتني سعيدة كيف ألتقط مسار الرصاصة بالسمع. فأنا الآن مِثلها، أتمتّع بحاسّة سمع دقيقة وحادّة تفوق قدرة القبابيط. وبمجرّد أن نحدِّد الموقع الذي ستسقط فيه الرصاصة، نركض في الاتّجاه بأقصى سرعتنا. ربّما لسبعة أو عشرة أمتار قبل أن نجد أنفسنا تجسّدنا بغمضة عين على مقربة من الطلقة وأحيانًا تحتها مباشرة. تصفِّق سعيدة أو أنا مرّة واحدة، فتتوقف الطلقة في الهواء ونتقاسمها. وجدت ذلك مسلّيًا. وبعد التهام خمس أو ستّ طلقات، أصبحتُ قادرًا على التحكّم بنكهتها. مثلما علّمتني سعيدة. نصفا طلقة يمكن أن يكونا بمذاقين مختلفين تمامًا. حسب ما تمنّى كلّ منّا أكله لحظتها. في المساء، رأتْني سعيدة أدسّ نصف طلقة في جيبتي. «ماذا تفعل؟»، سألتْني. أجبتها بأنّ جامعي السلاح سيذهبون إلى بيوتهم الآن وأنا أفعل ذلك تحسّبًا فربّما شعرنا بالجوع ليلًا. «لا تفكّر في الأمر. الناس هنا يطلقون النار حتى عندما يريدون الاحتفال بشفائهم من إصابة برصاصة طائشة»، قالت وأخذنا نقهقه. لاحظت أنّ ضحكة سعيدة المعهودة اختفت. لكنْ هناك دائمًا طرف ابتسامة على وجهها، كما لو أنّها على وشك أن تقذفك بشيء مرير وساخر. 
بقينا على هذه الحال أيّامًا. لا فكرة لدينا أين ستوصلنا الرصاصة التالية. كنّا جالسَيْن على أرضية أعلى عربة في دولاب الملاهي الضخم. أرجلنا تتدلّى من الباب المفتوح على ارتفاع سبعة وثلاثين مترًا، ظهرنا للبحر وبيروت أمامنا مجلّدة وضبابية كقطعة لحم ضخمة. قالت سعيدة «هذا مملّ... لقد رأينا كلّ شيء». «نعم... مملّ»، ردّدت وراءها. «فلنأكل الطلقات بدءًا من الغد على مرأى ممّن قوَّصها. سيكون هذا مسلّيًا أكثر...». «فكرة عظيمة!»، هتفتُ قائلًا. وهكذا، صرنا نأخذ الرصاصة إلى المكان الذي أطلقت منه. وعلى مرأى الشخص الذي أطلقها نبدأ بمضغها. حدقات عيوننا النحاسية كانت تدبّ الذعر فيهم فيصيبهم مزيج من الحازوقة والاختناق. لكنّ هذا لم يقلل من عدد مطلقي النار. فأيّ شيء كان يمكن أن يجعل الناس يقوِّصون عشوائيًا. من بين الذين الذين مضغنا رصاصًا أمامهم صبيّ أطلق النار ابتهاجًا لظهوره في لقطة لليونيسف على التلفزيون. كادت زائدته الدودية تنفجر من الخوف. إحدى الطلقات خرجت من شبّاك غرفة مستشفى. مُطلِقها، في الستينات من العمر، كان قد خرج للتوّ من غرفة العمليات بجراحة في الرأس. ليثبت لأولاده أنّه بخير، أصرّ على إطلاق عيار واحد من مسدّس كولت من شبّاك غرفته في المستشفى وهو غير قادر بعد على أن يفتح عينيه.

آخرون لم يكن لديهم سبب محدّد سوى أنّ الأمر جعلهم يشعرون بأنّهم أفضل حالًا. لكنّ هذا لم يكن كلّ شيء. بل إنّ الناس اعتادوا الأمر لدرجة أنّ بعضًا منهم طوّروا بطبيعة الحال، لغة مشفّرة بالرشق الناري للتواصل في ما بينهم. الهواتف لم تكن متوافرة كثيرًا ولا الإنترنت. على هذا الأساس كان يمكن لشابّ أن يطلق رشقًا في الليل بطريقة محدّدة ليقول لفتاته «أحبّكِ» أو «أرجوكِ أعطيني فرصة أخرى».

أرانب
وجدتُ نفسي في شارعنا. كان ذلك بعد أن رأى شابّ أمّه في المنام. كانت أصغر سنًّا، بثوب أبيض وفي حديقة صبّار خضراء جدًّا. اعتبرها بُشرى لدخولها الجنّة. ففتح عينيه، لَقَّمَ مسدّسه وأطلق بعض العيارات تأثّرًا. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. وإحدى الطلقات في طريقها إلى ترّاس الطابق الأخير من البناية المجاورة لبنايتنا: مساحة مفتوحة نصف مربّعة، نصف ملعب كروضة أطفال وتُشرِف على البحر. وطاولة كبيرة وبجانبها خزّان مفتوح ومسقوف بعوارض خشب وموصول إلى الصرف الصحّي. كان خلف الطاولة شابّ يمسك بأرنب وعلى وشك ذبحه. إنّه مكواية. عرفته برغم عمره الذي كان على الأقلّ واحدًا وعشرين عامًا. كان يذبح الأرنب ثمّ يعلّقه بالمقلوب على العارضة الخشبية ليصفّي دمه في الخزان، فيما يقوم أبوه بعد ذلك بسلخ الجلود. كانت ذراعا عريف الدرك السابق سليمتين تتحرّكان برشاقة وفي أصابعه خواتم ذهب كبيرة. ويرتدي كابنه مريولًا ويتكلّمان بنفس نبرة الصوت الحادّة والفظيعة، فيما الترّاس من حولهما مليء بأرانب لفرط سمنتها لم تقوَ على الركض. فيمدّ مكواية يده إلى الأرض كيفما اتّفق وينتقي واحدًا. من الواضح أنّهما يربّيان الأرانب ثمّ يسلخانها حين تسمن، يتاجران بلحمها ويحتفظان بالجلد قطعة واحدة لتجفيفه وبيعه كشال للعنق. وقفت مسمّرًا في أرضي. كان أحد الأرانب مختبئًا في زاوية معتمة. إلّا أنّي تأخّرت في التصفيق، فأصابته الرصاصة الطائشة في رأسه. «ماذا دهاك؟ أنا جائعة»، قالت سعيدة. «أنا أيضًا. لكنّي تذكّرت». كنت الآن ذاهلًا لحيوية أبو مكواية. سنعرف لاحقًا أنّه بعد أن فُصِل من سلك الدرك، استعمل تعويضه البسيط لشراء أرانب وباتت تجارته. تذكّرتُ أمّي «أنا لم أكن نافعًا في شيء لأمّي... أريد أن ألقي نظرة على بيتنا». نزلنا من البناية واتّجهت إلى بنايتنا. رأيت امرأة الصيدلي. كانت جالسة في كرسيّها المعتاد، ممسكة برسالة بين يديها تقرأها وتعيد قراءتها بصوت مسموع لمعرفة هويّة مرسلها. حين رأتنا نهضت ونادتنا لنقرأ الرسالة بصوتنا لعلَّ ذلك يساعد، إلّا أنّها مع رؤية حدقاتنا النحاسية دخلت بيتها مفزوعة. باب بيتنا لم يكن موصدًا. كان مغلقًا فقط. كان إلى جانب البيت ستّ شنط سفر كبيرة. أمّي في الداخل. نائمة على الأرض. بجانب رجل غريب وولد وبنت مراهقين. قدّرت أنّ أمّي كبرت عشرة أعوام على الأقلّ. «خمسة عشر عامًا»، قالت سعيدة «الزمن الذي نعيشه ليس كالزمن العادي. زمننا يُحدَّد بالطلقات و....» لم أسمع الباقي. فقد كان هناك طنين في أذنيّ. قلت لسعيدة إنّ أمّي كانت تفعل ذلك حين أتأخّر في العودة إلى البيت. تترك الباب غير موصد. الأرجح أنّها بعدما نام الجميع تسلَّلتْ إلى الباب وحرَّرَت القفل. لكنّي لم أجد ما يدلّ على أنّني عشت هنا. «ربّما أغراضك موجودة في الشنط. أردتُ فتح الشنط إلّا أنّ الطنين كان يزداد سوءًا في كلّ لحظة. وشعرت بدوخة. حملتني سعيدة على ظهرها ونزلت بي الدرج، كما كنت أفعل معها. بعد تركي بين سيّارتين، غابت لدقائق، لتعود وفي يدها حفنة من الطلقات. فتحتْ فمي وسكبتها فيه. رحت آكلها فاستعدتُ وعيي. سألتُها «إلى أين تظنّين أنّهم مسافرون؟». إلّا أنّني لم أجرؤ. «ماذا أردت أن تقول؟»، سألتني سعيدة. قلت «أتمنّى أن يمزّق الرصاص الطائش كلّ أرانبهم». لم تعلّق سعيدة. لكنّها قالت «سأطرح عليك سؤالًا. لو افترضنا أنّ الطلقة كانت ستصيب أبو مكواية بدلًا من الأرنب، أيّهما سيكون أفضل برأيك، أن تدعها تخترقه أم تصفِّق؟».

«الأفضل؟». «نعم...». لم أعرف الإجابة. فقالت «تُصفِّق. الأفضل أن تصفّق. حتى وإن كان الآن سليمًا مئة بالمئة. هل تعرف الرصاصة التي كادت تصيبك – أو ربّما أصابتك فعلًا، ممّن أطلقت؟». «لا». «من أبو مكواية». «كيف؟ هو لم يكن يستطيع رفع يده». «ابنه، بعد ما حدث له، كان يأخذه إلى السطح كلّ يوم ويدرِّبه على إطلاق النار. يرفع ذراعه ويقول له الآن أبي، فيضغط أبو مكواية بكلّ قوّته على الزناد. تلك الطلقة كانت منه. لكنّه لم يعرف أنّها أصابتك، أعني كادت تصيبك...». «هذا عادل... أنا من تسبّب له بذلك»، قلت. «أنتَ؟ ها ها ها.. لقد ضحك عليك عسيلي. أبو مكواية تعرّض لإطلاق نار صحيح. لكنّ ذلك كان قبل أن يفاتحك عسيلي بالأمر. لقد أخذ مالك من دون أن يفعل شيئًا. ها ها ها»، راحت سعيدة تقهقه. فأخذت أقهقه معها «ها ها ها...»، من أعماق بطني الخاوية. في تلك اللحظة سمعنا طلقة. فركضنا بأقصى سرعة نتسابق مَن مِنّا سيصل إليها قبل الآخر.

مازن معروف
قاصّ وشاعر ومترجم فلسطيني. من مواليد بيروت عام 1978، حائز إجازة في الكيمياء من الجامعة اللبنانية. كتب للصحافة اللبنانية والعربية في الشأن الثقافي. له ثلاث مجموعات شعرية هي «كأنّ حزننا خبز»، «الكاميرا لا تلتقط العصافير» و«ملاك على حبل غسيل»، ومجموعتان قصصيتان هما «نكات للمسلّحين» الفائزة بجائزة الملتقى للقصّة القصيرة عام 2016 و«الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه»، ورواية قصيرة صدرت بالإنكليزية بعنوان «لعنة صبيّ كرات الطين». حاز عام 2004 جائزة «لانا ليتيراتورا» للشعر، كما وصلت مجموعته «نكات للمسلّحين» بطبعتها الإنكليزية إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2019.