سينما فلسطينية مُمكنة ومُقبلة

روجيه عوطة
السبت   2022/06/11
لا بد من الاشارة إلى إشكالية تدور حولها السينما الفلسطينية، مثلما بيّنها مهرجانها الذي انعقد في باريس. طبعاً، استخدام فعل الدوران هنا من أجل الحديث عن وضع السينما تلك، حيال اشكاليتها، يهدف إلى التأكيد على حركتها في إثرها، التي كان من الممكن لها أن تعاني منها بكل همود، لكنها، بدلاً من ذلك، هي في حالة تفتيش عن سبل مقاربتها. إنه تفتيش دوار حول اشكاليته، وقد يصح القول إنه ما زال في مطلعه، الذي يبدو أنه لن يقتصر على دورانه، إنما سيجتازه ليغدو تخطيطاً متنوعاً.

هذه الاشكالية، يمكن تقديمها هكذا: هناك ثقل يقع فوق هذه السينما، هو ثقل تاريخها، الذي تشكّل محوره تمثيلات القضية الفلسطينية، بين الخمسينيات والثمانينيات. كيف تتعامل هذه السينما مع هذا الثقل التاريخي والتمثيلاتي؟ التاريخ في هذه الجهة، ليس سوى مجموع تطورات تلك التمثيلات التي توقفت على شعارات وصور وأفكار وسرديات بعينها. ثمّة ثلاث إجابات على ذلك الاستفهام الاشكالي.

بداية، هناك إجابة التمسك بذلك الثقل من خلال تحويله إلى ما يوصف بالمرجع، باعتباره محدداً لكيف يجب على السينما الفلسطينية أن تتواصل من بعده. فيبدو هذا الثقل-المرجع أنه هو الذي يضمن استمرارية تلك السينما، ولأنه كذلك، يمدها بموضوعه، أي القضية الفلسطينية مثلما هي ممثلة فيه. فلا يمكن للسينما سوى أن ترجع إليه، لا من ناحية مواصلتها فحسب، بل، وأيضاً، من ناحية تمثيلها لتلك القضية، بحيث تستند إلى كل ما تألف فيه حولها. بهذا، السينما، التي تتمسك بالثقل بعدما صار مرجعاً، تغدو في خدمته، بمعنى أنها لا تصنع أشرطتها سوى لكي تصونه، لكي تجعله على حضور كامل، لا يمر أي زمن عليه. بالتالي، هذه السينما، وفي حين انها تضمن استمراريتها من خلال التمسك بذلك الثقل كمرجع لها، تتحوّل إلى مَن يقيه مرور الزمن، وبما أن هذه الوقاية مُحالة، تضع كل وسعها لتحققها: تحمل الثقل، وتذوب فيه، فلا يبقى منها سوى ذكرى سينما.

إجابة التمسّك هذه من قبل السينما الفلسطينية، توازيها إجابة أخرى، وهي رمي كل ذلك الثقل عنها. نقطة مشتركة بين التمسك به ورميه، هي أن هذا الوزن، وفي لحظتي الفعلين هذين، يصبح بمثابة مرجع، مرة من أجل الارتكاز التام عليه، ومرة من أجل تركه الذي يبدو هنا ردّ فعل. لكن هذه ليست مشكلة الترك هذا، انما تتعلق بأنه يودي الى اعلان موت موضوع المرجع إياه، الذي يتحول إلى قضيةٍ، الحديث عنها غير ممكن. بطريقة أخرى، سينما رمي الثقل تمارس على نفسها شكلاً من الرقابة التي تمنعها من تناول قضية الشعب الفلسطيني على أساس أنه علامة على كونها ترجع الى الثقل. إلا أن القضية هذه، وحين تصير ممنوعة، لا يعني أنها تغدو غائبة، على العكس هي تحضر بشدة، لكن هذه المرة متروكة من قبل السينما لمن يستفيد منها ومن كل ما تتضمنه من مكابدة، وهذا، لكي تغدو عنواناً للتزمت. على هذا النحو، وفي حين أن تلك السينما ترمي الثقل عنها، تترك القضية على ذلك العنوان قبل أن تتذكرها، فتجدها حينها أنها قد فاتتها، ولهذا، قد تهرع إلى ما يشبه "انقاذها" قبل أن يصيب الكسل نشاطها. هي سينما الفوات، تتأرجح بين أوقات الاستهزاء وومضات الوعي بالتفريط بإسمها.

يمكن الإضافة في هذا السياق أن سينما الرمي، وعند مفترقات معينة، تبدو كسينما التمسّك، بحيث تتعلق أيضاً بالماضي، لكن عبر رفضه، وطبعاً، تطلق عليه عندها اسم الراهن. فإذا كانت سينما التمسّك، ذكرى سينما، فسينما الرمي هي طيف سينما.

وهناك إجابة اخرى، وقد لفت مهرجان السينما الفلسطينية النظر اليها. مفاد هذه الإجابة: ثمة سينما لا تتمسّك ولا ترمي الثقل-المرجع، انما تذهب إلى تخفيفه لكي لا يعود على ما هو عليه. إذن، هي سينما التخفيف الذي تمارسه بطريقة محددة ترتبط بكونها تقف على ذلك المرجع، وتحاول ان تصِل مشكلاتها بمشكلاتٍ كان قد حضرت فيه، لكن في ظل قضيته المحورية. فلا تعمد السينما إلى ترك هذه القضية، لكنها تستخلص من حولها، من ظلها، مشكلات على صلة بمشكلاتها. على سبيل المثال، تبحث عن المشكلة النسوية، وهي تقع عليها داخل ذلك المرجع، لكن في هامش قضيته، فتستند اليها من اجل تمتين طرحها لها في الحاضر، وهذا من دون أن ينطوي فعلها هذا على كونه نفياً لتلك القضية. على العكس -وهنا كل أهمية هذه السينما- فهي تجدد القضية بالمشكلات، ما يجعلها مفترق طرق لها. بدلاً من أن تكون القضية الفلسطينية محوراً يدفع باقي المشكلات الى هامشه، تصير، وبفعل تلك السينما، فضاء لكل تلك المشكلات. بدلاً من أن تثقل على هذه المشكلات، تصير فضاءً لتحركها. وماذا يبقى من المرجع ومن ثقله حينها؟ لا يكون مُعدّاً للتمسك الكامل به، ولا للرمي التام له، انما يغدو أولاً بلا ثقل. وثانياً، يستحصل على مكانه في الماضي، الذي لا يفرض منه الرجوع اليه ولا يدفع منه إلى نبذه، إنما، ومن هذا المكان، يستطيع أن يمتّن الحاضر بما هو مطلع السينما إلى مقبلها. فسينما التخفيف هي سينما تجديد السينما، اي أنها سينما مُقبلة: لا ذكرى سينما، ولا طيف سينما، إنما، وبعبارة واحدة، إمكان سينما.