بين إكسير الخلود وإحلال الظلام: أساطير الحيض وأسحاره

يارا نحلة
الجمعة   2022/05/27
ليس دم الحيض مجرّد سائل جسدي
لطالما أحيطت جنسانية المرأة بأساطير وخرافات، استعان بها البشر من أجل تفسير ما لا يفهمونه، وبالتالي يرتابون فيه. وفيما تبدو لنا اليوم هذه المقاربات مضحكة وأقرب إلى الهزل، فإن عنصر الرعب كان ملازماً لها على الدوام، خصوصاً حين يأتي الأمر لظاهرة النزيف الشهري، ذلك الحدث الدموي الذي لم يجد له أسلافنا تفسيراً علمياً، فرسموا حوله هالة تتفاوت بين القدسية والشيطنة.

من الأساطير التي تردّد صداها عبر أزمنةٍ وبلدان مختلفة، خرافة التدنيس والتلوث التي تحذّر من قدرة المرأة على تلويث المحاصيل الزراعية وحتى اللحوم والمشروبات الروحية خلال فترة حيضها. في فرنسا كان الخوف على النبيذ، وفي ألمانيا على البيرة، وفي بريطانيا على لحم الخنزير. وقد بقيت هذه الخرافات قيد التداول في القارة الأوروبية حتى القرن التاسع عشر، ولم تكن حكراً على العامة، بل شملتْ أيضاً الفلاسفة، من اليونان إلى الامبراطورية الرومانية.

في نصّه "عن الأحلام"، تحدّث أرسطو عن أن المرأة الحائض إذا ما وقفت أمام المرآة فإن سحابة حمراء ستظهر على سطح هذه المرآة. أما الفيلسوف الروماني "بلايني الأكبر" فقد كتب في "التاريخ الطبيعي" أن النساء الحائضات لديهن القدرة على إخافة العواصف، ذبح العشرات وقتل الرجال، فضلاً عن إصابة المحاصيل الزراعية بالعقم إذا ما لمسنها.

وفي حضاراتٍ كثيرة ارتبط دم الحيض (يصادف 28 أيار/مايو، اليوم العالمي للحيض) بالسحر والشعوذة، إذ كان يعتبر مادة مثيرة للشهوة وفي الوقت نفسه تعويذة للخلود. ونذكر هنا قصة "بياتريس دي بلانيسول"، وهي من نبلاء طائفة "الكاثار" التي انتشرت في أوروبا في القرون الوسطى، وقد مثلت أمام المحكمة للرد على تُهم بالكفر والسحر والهرطقة. من ضمن الأغراض التي وُجدت في حوزة بياتريس، دم الحيض الأوّل لابنتها، والذي احتفظت به الأم من أجل تقديمه لاحقاً لزوج الابنة، إيماناً منها بأن من يشرب هذا الدم سيظلّ مخلصاً لابنتها الى الابد. شاعت هذه المعتقدات أيضاً في القارة الأفريقية وحتى زمنٍ ليس ببعيد، إذ تناولتها دراسات صدرت في ثمانينات القرن الماضي في ساحل العاج.

كذلك، تقول الأسطورة بأن الإله الاسكندنافي "ثور"، بلغ الخلود بعد الاستحمام في نهر من دم الحيض يسمى "تيمور". أما فلسفة التاوية الصينية، فقد آمنت بأن من يشرب "عصير الين الأحمر"، أي دم الحيض، يحقّق الخلود، بينما اعتبر المصريون القدامى دم ايزيس سبيلاً للتنوير.

ولعلّ الخرافة الأكثر جموحاً هي تلك التي ولدت من رحم الميثولوجيا الاغريقية، وبالتحديد قصة الإلهة ميدوزا التي ترمق الرجال بنظرة واحدة، أثناء حيضها، فتحيلهم حجراً وجماداً. الملفت في أسطورة ميدوزا هو القوة الخارقة التي تسندها للنظرة الأنثوية، وليس فقط لأعضائها التناسلية. فمن ناحية، كان يُنظر إلى قُدرة المرأة على النزيف كل شهر، من دون أن تموت، كرديفٍ للخلود. ومن ناحية أخرى، كان هذا الدم يمثّل في المخيال الشعبي قوة ظلامية متفوقة وقادرة على قهر الرجل الذي، إن سالت دماؤه، مات.

إن هذه التخيلات والمخاوف دفعت الحضارات القديمة- والحديثة أحياناً- إلى عزل النساء الحائضات واستبعادهن عن المساحات المشتركة. الديانات السماوية ما زالت تضع قيوداً على المرأة الحائض، فلا يمكنها ممارسة طقوس الصلاة والصوم في الإسلام، ولا تستطيع دخول الكنيسة في بعض الطوائف المسيحية (كالقبطية). أما الديانة اليهودية فتمنع احتكاك الرجال بالنساء في هذه الفترة، أو حتى تمرير الأشياء لبعضهم بعضاً.

وقد ذهبت بعض الحضارات الى تكريس مساحات لعزل النساء الحائضات. ففي النيبال مثلاً، خصصت لهن "أكواخ حيض" يطلق عليها "شابودي"، وما زال بعضها موجوداً حتى اليوم. أما في باكستان، فتسمى هذه المساحات "باشالي"، وقد وصفتها الباحثة الأنثروبولوجية واين ماجي بأنها "المكان الأكثر قدسيةً" بالنسبة للنساء. فرغم وظيفتها الاقصائية والتمييزية، الا أنها قدّمت مساحات آمنة - شبيهة بتلك التي تقيمها النسويات اليوم-  تديرها النساء بالكامل وتشكّل أرضية للتنظيم والتأسيس لتكافل جندري.

أما في نظرية "الميتافورمز"، فتلعب طقوس الحيض التاريخية دوراً مركزياً، ليس بالنسبة للنساء وتجاربهن فحسب، بل أيضاً في بناء الحضارة والوعي البشري. وتتحدّث المنظرة النسوية والكويرية، جودي غراهن، عن وعي بدائي سابقٍ للغة، حيث كانت مفاهيم كاللون والضوء والمسافة خارج قدرة البشر الأوائل على النطق وبالتالي الإدراك. إلا أن علمية الإدراك هذه، هي في المقام الأوّل، عملية فصل وتمييز. وعليه، تحوّلت فترات الفصل الدورية التي تخضع لها النساء، إلى تجارب تعليمية وإدراكية بالنسبة لهن وللمجتمع المحيط.

وترى غران أن وعي النساء يرجع تحديداً إلى تطور القدرة على التمييز بين النور والظلام، إذ كان يُعتقد أن النساء يحضن بشكل جماعي خلال فترة تخفي القمر، وعليه فإن مصدر الظلام هو الحيض. لذلك كان يمنع على النساء خلال هذه الفترة النظر إلى الضوء خوفاً من تدميره، ولم يكنّ يخرجن من عزلتهن سوى في الفجر مع بزوغ الضوء، وما كنّ يرصدنه من مشاهدات وفروقات لعب دوراً محورياً في استيعاب هذا الفصل، ضمن مفاهيم أخرى. ولأنه يشاع اعتقاد عن ارتباط الدورة الشهرية بدورة القمر، أضحت التجارب المكتسبة خلال فترة الحيض معبّرة عن ظواهر طبيعية أكبر، لا سيما الوقت وأساليب قياسه.

ليس دم الحيض مجرّد سائل جسدي، بل هو مادّة مثقلة بالرمزية خصوصاً لجهة الربط بين الحيض وبين المعرفة. هذا الربط ليس حكراً على أسلافنا الوثنيين، فصوره حاضرة في أساطير حضارتنا الحديثة، ومنها أسطورة بداية الخلق التي تقول بأننا هبطنا الى هذا العالم بعدما تناولت حرّضت الأفعى حواء، على تناول تفاحة حمراء من شجرة المعرفة. ويمكن هنا الموازاة بين الأفعى وشخصية ميدوزا، المرأة التي تنبت في رأسها الثعابين. أما التفاحة الحمراء، فهي تجسّد في الوقت نفسه، الدماء المحرّمة، والمعرفة التي يجب أن تظلّ قيد الكتمان، أي أسرار الجنسانية الأنثوية.