"التنقيب في الأرشيف": تمصير توت عنخ آمون

شادي لويس
السبت   2022/04/23
توت عنخ آمون
يغير المتحف وظيفته في المراكز الكوزموبوليتانية، المؤسسة التي أُسندت لها في الماضي مهمة تجسيد سردية الامبراطورية، في صورة مقتنيات وغنائم حرب واكتشافات فريدة، يعمل أرشيفها اليوم على تفكيك السردية نفسها أو ربّما قلبها رأساً على عقب، مدفوعة بمزيج من شعور فخور بالذنب، ورغبة في الكشف عما ظل مخفياً وراء المعروضات.
 
بمناسبة مئة عام على اكتشاف مقبرة توت غنخ آمون، تقيم مكتبة بولدوين في أكسفورد معرضاً بعنوان: "توت غنخ أمون: التنقيب في الأرشيف". في فبراير 1922، أعلنت بريطانيا منحها مصر استقلالها، وبعد أقلّ من تسعة أشهر، في نوفمبر من العام نفسه، اكتشف الإنكليزي هوارد كارتر وفريقه مقبرة الملك الذهبي. استُقبلت أخبار الاكتشاف بحماس استثنائي في بريطانيا، التي كانت تؤرقها أعراض التداعي الاقتصادي بعد الحرب والعلامات المنذرة بتفسخ الامبراطورية، وفي الصحافة الإنكليزية نُصّب كارتر بطلاً، فالاكتشافات المذهلة كانت لاتزال ممكنة، والفضل يعود فيها للأوروبيين كالعادة. أما في مصر، فخدم القناع الذهبي للملك الطفل أغراضاً مختلفة تماماً، بعدما غدا شعاراً لمصر الساعية لإثبات استقلالها.


في الاستعانة بعشرات الوثائق من مذكرات كارتر وخطاباته وصوره الفوتوغرافية ومخططاته، يسعى المعرض للكشف عن المصريين المجهولين في مهمة الاستكشاف التي استغرقت عقداً كاملاً. فكارتر لم يكن حاصلاً على تعليم تخصصي في الأركيولوجيا، وكانت خلفيته فنية بالأساس، لذا كان اعتماده على عشرات العمال والمشرفين المصريين وخبراتهم العملية في التنقيب، والتي توارثها بعضهم بشكل عائلي، أبّاً عن جدّ. كانت مهمتهم شاقة، لكنها تطلّبت أيضاً قدراً معتبراً من المعرفة وأداءً شديد الحرص والدقة. من بين هؤلاء، نعرف أسماء أربعة فقط يذكرهم كارتر في أوراقه، أما البقية فنرى وجوههم في الصور الفوتوغرافية المعروضة، من دون أن نكون قادرين على ربطها بأسمائهم. 

في تلك الصور، تظهر تراتبية كولونيالية شديدة التحديد، بحسب الترتيب البصري وكذا توزيع الأدوار الاجتماعية. الرجال البيض جالسون على الكراسي، فيما يقف المصريون لخدمتهم، أو يجلس بعضهم القرفصاء في مستوى أدنى. لكن القصة الشهيرة المتعلّقة باستقالة كارتر من وظيفته السابقة في مصلحة الآثار المصرية، تضامناً مع حارس مصري رفض دخول سياح فرنسيين إلى منطقة ممنوعة، تدلّ على علاقة وثيقة بينه وبين أهل البلاد ممن عملوا معه. 

لم يترك أي من العاملين المصريين في فريق كارتر، نصوصاً يمكن الرجوع إليها، والأغلب أن معظمهم كان يجهل القراءة والكتابة. ولا عجب أنهم بقوا بلا صوت، والمحاولة حسنة النيّة من القائمين على المعرض لاستنطاقهم، تظل معتمدة على الأرشيف الغربي والنصوص التي تركها الأعضاء الغربيون في الفريق. 

تظهر إحدى الصور المعروضة، طفلاً أسمر البشرة، يلبس فوق جلبابه الأبيض واحدة من قلادات الملك توت، ثقيلة الوزن. تشي الدلالات المتناقضة للصورة، بالتوتر الذي أحاق بعملية الاكتشاف. فمن ناحية، يبدو الصبي الذي يقترب عمره من السن الذي دُفن فيه الملك الصغير، تمثيلاً لتلك العلاقة البعيدة التي تربط المصريين القدماء بالمصريين المحدثين. وفي الوقت ذاته، يظهر الصبي، الذي كان على الأغلب أحد عمّال الموقع أو ابن أحدهم، في تموضعه أمام الكاميرا من أجل العين الغربية، وكأنه في علاقة إخضاع واستيلاء.

تلك التوترات لم تكن رمزية فقط، فأزمة دبلوماسية وإعلامية ستثور حول تقسيم القطع المكتشفة بين الحكومة المصرية والبعثة الاستكشافية. فكارتر، الذي لم يكن قد أدرك بعد تغير الزمن من حوله، أراد الحصول على نصف محتويات المقبرة كما جرت كالعادة، وفي الناحية الأخرى كانت أول حكومة مصرية بعد الاستقلال عازمة على الاحتفاظ بها كلها، وهو ما حدث بالفعل.