روائيون وشعراء متورطون في الفوتبول.. منذ الإلياذة

محمد حجيري
الجمعة   2022/12/09
في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة نانت الفرنسية (غيتي)
يقرّ الصحافي معن البياري، رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد"، في تقديمه كتاب "سحر كرة القدم"(وهو من إعداده وتحريره)، بأن "الإحاطة بكل أسباب البهجة والفرح في كرة القدم عمل شاق"، لا لشيء إلا لأن الساحرة المستديرة على المستطيل الأخضر، "عصية على التعريف"، وهي في واحد من معانيها، محتوى ثقافي بـ"أبعاد غزيرة تروح إلى الخيال والوجدان والشعور"، وهي أكثر من لعبة "تحمل مجازات وايحاءات"، لذلك "تستنفر مخيلات الأدباء وقرائحهم، شعراء وساردين"، فيكتبون عنها ما تفضي به جوانحهم عن الذي تحدثه كرة القدم في "الأنفس والعقول والحشايا"، ويكتب أهل الأدب عن "الذي في الأكثر من لعبة بأنفاس الأدب نفسه، لا بحسابات صافرات الحكم في الملاعب، يكتبون مجازاتهم واستعاراتهم".

بين دفتي الكتاب، واحد وستون نصاً، أصحابها من جغرافيات وأوطان وثقافات متنوعة، وهم 30 عربياً، من فلسطين ومصر وعُمان والجزائر وتونس والمغرب والسودان وسورية وقطر والعراق واليمن والأردن ولبنان وليبيا، إضافة إلى 31 كاتباً أجنبياً من إسبانيا والهند وكوستاريكا وفرنسا وألمانيا والأوروغواي والباراغوي وتشيلي والمكسيك والسنغال والكاميرون ونيجيريا والأرجنتين وإيطاليا والدنمارك واليونان وروسيا والبيرو والكونغو (وغيرها) وثمة شعراء كانوا لاعبين مثل لويس فيليب سارمنتو(شاعر البرتغالي) وفوزي يمين (شاعر لبناني). وكتب المساهمون عن كرة القدم وشغفهم بها وبلعبتها وأبطالها ومقامها في ذاكرتهم، ومن حساسيات وأجيال مختلفة، ومن مذاهب وجماليات فنّيّة عديدة، سواء من خلال اللعب في زمن الطفولة أو المشاهدة والمتابعة والحماسة والصياح والابتهاج وطقوس الجمع حول التلفزيون أو في المدرجات. كتّاب يعبّرون عن علاقتهم بالكرة أو علاقة بلادهم باللعبة، يتطرقون الى جمهورها ونجومها، في مختلف البلدان، من الهند، التي يبلغ عدد سكانها 1450 مليون نسمة، ومع ذلك بحسب السفير الهندي امارندرا كاتوا لم تقدّم أداءً رائعاً في كرة القدم في الألعاب الاولمبية أو كأس العالم أو كأس أسيا. ومع ذلك، الجميع في الهند يحبّون كرة القدم، أكثر من أي رياضة استعمارية أو تقليدية. ولكرة القدم جمهور مجنون وإيرادات مذهلة بعد انتهاء المباراة. ما يقارب 98% من السكان يشاهدون كرة القدم في شاشة التلفزيون، و53% يتابعون دوريات كرة القدم العالمية وكرة القدم البريطانية. إلى روسيا حيث يعشقون الكرة ويعانون منها (الشاعر الروسي نيكيتا سونغاتوف)، فهم بارعون في الهوكي وسيئون في كرة القدم. ثمّة تفسير بسيط للأمر، في بلد تغطيه الثلوج والجليد ثمانية أشهر في السنة، يصعب تخيّل فكرة وجود قطار ينقلك إلى مباراة كرة القدم، أو حتى وجود قطار ينقل أي إنسان. ويمتدّ الحديث الكروي في كتاب معن البياري إلى إيطاليا رومانيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي(ليبيا، المغرب، مصر، السودان، لبنان...)...

ويأتي كتّاب "سحر كرة القدم" على لسان القصصيين والروائيين والشعراء، بمناسبة مونديال قطر 2022، ومن ضمن ظاهرة التلاقي بين لغة كرة القدم ولغة الكتابة أو الشعر، وهي أصبحت أمراً بديهياً ومألوفاً، على عكس  زمن سابق وغابر، "توالى فيه أعلام ومثقفون على هجائها(اي كرة القدم)، ومنهم من شبهها بالأفيون الذي تستخدمه الأنظمة لإلهاء الشعوب، ومنهم من راح يهجو الزمن الذي يتقاضى فيه لاعب مثل مارادونا أجراً لا يحلم به أعظم مفكّر"(الروائي عمر قدور). وهذا التنميط السياسي والايديولوجي تقلّص وباتت الكرة ساحرة الجميع حتى للذين لا يحبونها، وسبق لمعن البياري أن وجد في سؤال الشاعر محمود درويش: "لماذا لا تكون كرة القدم موضوعاً للفن والأدب؟" بياناً يعبّر عن وجاهة صدور الكتاب، معتبراً أن هذا الكتاب محاولة للإسهام في الإجابة عن هذا السؤال. وساق البياري جملة من النماذج العربية القليلة التي تناولت كرة القدم، من ذلك قصيدة للشاعر العراقي معروف الرصافي، ورباعية للشاعر المصري صلاح جاهين، وبضع روايات "كروية": "الفريق" للمغربي عبد الله العروي، و"ضربة جزاء" للجزائري رشيد بوجدرة، و"إصابة ملاعب" للمصري أحمد الصاوي، و"باغندا" للتونسي شكري المبخوت.

تعريف
ونستنبط من الكتاب أو كلام الكتّاب شبه قاموس تعريفيّ لكرة القدم او لعبتها، فهي "تغدق علينا أصنافاً من الملذات السحرية" و"تدور وتدور معها الاهواء والأحلام"(محمد الاشعري- شاعر مغربي)، و"تجعل المرء قوياً"(ابراهيما سيسيه ماكالو- شاعر سنغالي) وهي "القوة المذهلة التي تتفجّر في الملعب، والتي تشكّل نسيجا هندسياً وشجاعة فائقة، حتى اللحظة التي تحلق فيها الكرة وتنتهي في شباط الخصم". وهي "أحد أروع التعابير عن الحياة" (جوسبه كونتي – شاعر إيطالي)، و"لعلها تنويع على مزيج فريد من الباليه على رقعة شطرنج متحركة"(سنان أنطون – روائي عراقي)، و"هي مرآة كاملة لكل حقبة زمنيّة" (كريستينا دومينيك- شاعرة ارجنتينية) و"تعلّم المشاركة والتضامن، تجر الهزيمة حزناً جماعياً مثلما يجر النصر ابتهاج شعب كامل... وهي مستديرة كالأرض/ وكلنا نحب أن ننططها ونخترق بها" (نيلز هاف – شاعر دانماركي) و"مفتاح روح الإنسان... الهياج الأصيل، مزيج الطاقة والحلم" (ايون دياكونيسكو- شاعر روماني) و"ليست الكرة إلا شيئاً مبهماً، لها غلافٌ من الجلد، لكن روحها من الكاوتشو، وهي كلمة في لغة كيشتوا في البيرو تعني "الشجرة الضاحكة". شخصية، اعتقد ان الكرة في الحقيقة جنّيّ. شيطان صغير يهزأ بنا جميع"(نيكولا بوتيغليري – شاعر وروائي ايطالي)، وهي "لغة، نظام من علامات تتخلله لحظات شاعرية صرفة، أنها لحظات تسجيل الهدف من تسديد بارعة لو لحظة اشراق، حالة ذهول تماثل لحظة ولادة الكلمة الشعرية"(غراثييلا اراوث- شاعرة ارجنتينية).

الطفولة
ومعظم الكتاب والكاتبات يسرد جانباً من رمزية الكرة أو الساحرة المستديرة في طفولتهم. فالشاعر عقل العويط "ضعيف الى درجة الشغف حيال الفوتبول"، ربما لارتباط لعبة كرة القدم عنده بالطفولة الأولى، والشاعر الارجنتيني فيكتور ريدوندو "يقول أظنني جئت الى العالم مزوداً بثلاث إضافات: قلم، وكتاب من مؤلفات، وكرة قدم". فهو كان يقلّد الرياضيين من صغره، وكانت الرياضة هي من فاز في المنافسة بين رغباته الأولى. الشاعر التونسي آدم فتحى تمنّى أن يكون أديباً ولاعب كرة قدم، وصارت أمنية "مزمنة" في حياته. وكذلك الروائي العماني يونس الاخزمي كان يريد أن يكون كاتباً معروفاً مثل نجيب محفوظ أو لاعب كرة قدم شهيراً كبيليه، ويعتبر الكرة "درس المثابرة على الكتابة"...

ولعبة الكرة في الأحياء فيها شيء من الشقاء، ويتلاقى أكثر من كاتب على صورة أو استعارة مشتركة... يقول الروائي الفلسطيني محمود شقير "كنا نلعب بكرة صلب صغيرة، أطلقنا عليها، لشدّة صلابتها، لقب الكرة ذات الجلود السبعة، ولم يحدث سوى مرتين أو ثلاث أن ظفر أحدنا بكرة كبيرة كاملة الأوصاف"، و"كان العثور على كرة في حد ذاته، في أيامنا تلك، غاية في الصعوبة، لذلك يحشو اللاعبون "الشرابات" بالقماش حتى تتحوّل إلى كرة، قاسية وناعمة في الوقت نفسه"(أمير تاج السر- روائي سوداني).. و"لم يكن هناك ملعب في القرية، ولا حتى ساحة يمكن تحويلها إلى ملعب، كنا نحدّد مساحة من أرض خالية وسط الحقول لنلعب عليها. ولم تكن لدينا كرة حقيقية. كنا نصنعها من ثياب قديمة، نكورها بعد أن نلصقها ببعضها بعضاً، وأحياناً نكتفي بقطعة مطاط نشذبها  ونصنع منها ما يشبه الكرة، بل هناك من الأطفال من يحول زجاجة بلاستيك فارغة إلى كرة". (الحبيب السالمي – روائي تونسي).

والكرة طقس أحياء ومجتمعات وأمر عائلي بامتياز "ارتباط كرة القدم بعائلتي عميق. كان مثيراً دوماً مشاهدة جميع أفراد العائلة وهم يلعبون. بكل هيجان مشاعرهم، في غرفة الجلوس، مع نواديهم المفضلة"(ايو ايولا- امالي- شاعرة نيجيرية). وتكتب بسمة النسور(قاصة أردنية): "ورث أشقائي الخمسة، على اختلاف تخصصاتهم، شغف الوالد الكروي. وفي مواسم كأس العالم لكرة القدم، يتحوّل بيتنا إلى نقطة جذب للجيران الذين يتوافدون شيباً وشباناً لحضور المباراة برفقة أبي". وينقل الشاعر الروسي نيكيتا سونغالتوف: "في طفولتي، نادراً ما لعبت كرة القدم، غير أنّ كل ما حولي كان متأثراً بها، حلم أبي في فتوّته بأن يصبح معلقاً لكرة القدم. وهذا لم يتحقق، بيد أن عشق كرة القدم ظل ينتابه طوال حياته"... ونجتمع "لنصيح بحماس للهدف الذي طال انتظاره لمنتخبنا الوطني" (نورا الاركون - شاعرة بيروفية).

البطل
وكرة القدم، عدا عن أنها لعبة الطفولة ولعبة الشعوب العابرة للهويات والطبقات، هي قبل كل شيء لعبة اللاعبين الذين يصنعون المتعة والحماسة والهياج والشعور الوطني والعاطفي والدرامي. فاللاعب "بطل العصر الحديث، ومنقذ لكرامة الشعب" (ابراهيما ماكالو- شاعر سنغالي). وتسأل الروائية منصور عزالدين: "كيف ننجو من سحر مارادونا؟ وتقول: "أظن أن الأمر يرجع إلى رغبة غير واعية في التمرد على ذائقة شقيقي"... تضيف: "مهما بلغ تمرّدنا، تنجح الأساطير بطريقة ما، في نسج خيوط داخل سرديتنا الخاصة، كنا مولعين بها أم لا. هذا بالضبط ما فعله دييغو مارادونا، بحيث أصبح جزءاً لا ينفصم من طفولتي، اذ ارتبط عندي بأولى محولاتي إعلاني فرديتي. وأبطال اللعبة تحولوا أيقونات في غرف الناس وحتى المثقفين، بل باتوا تيمة لكتابات فلسفية وشعرية ولوحات تشكيلية روايات. يقول محمود شقير: "لم يتوقف اهتمامي بكرة القدم عند المشاهدة وحسب، بل تعداها إلى ميدان الكتابة والابداع فقد وصفت بعض المباريات وبعض نجوم كرة القدم في عدد من قصصي ورواياتي التي كتبتها على امتداد سنوات الستين الماضية. وعندما تألق البرازيلي رونالدو في الملعب، كتب عنه قصة نشرها في كتابة القصصي "صورة شاكيرا" الذي صدر العام 2003". ويكتب الشاعر الكيني كريستوفر اوكيموا: "حين صرتُ أكاديمياً، بدأت تأليف قصائد وروايات وقصص قصيرة عن كرة القدم، فهي وحياتي متضافرتان، مثل قيد وسلسلة. جدار غرفتي يعج بصور رونالدو وميسي، ...". وتقول الروائية نجوى بركات: "بيليه، مارادونا، زيزو... باختصار، هذا هو الفوتبول (وليس كرة القدم) بالنسبة إلي... رجال بقصص فريدة، قصة استثنائية، آتون من أمكنة غير متوقعة، بوجوه ملونة ولكنات غريبة، يحركون بأقدامهم العالم"، وهي تتورط في قصص اللاعبين، كأنهم أبطال رواياتها.

شعراء
من جملة الملاحظات في الكتاب أن بعض المشاركين فيه يختارون مقاطع شعرية تعبّر عن حلم كرة القدم. تنتقي غراثييلا أراوث(شاعرة أرجنتينية)، عبارة لببير باولو بازوليني "الهداف هو، دوماً، أفضل شاعر في العام". وتختار كريستينا دومينيك قصيدة بعنوان "هب الفرح لقلب" لبلانكا فاريكلا تقول "العب بالأرض/ كما لو كانت كرة، راقصها، فجرها، حطمها/ فما الأرض سوى هذا...". يقول الكاتب الايطالي نيكولا بوتيغليري: "بعدما قرأت الأعمال الكلاسيكية للأدب الغربي، أدركت السرّ وراء سحرها. معظم الشعر الملحمي ينتهي بمبارزة بين اثنين: فالإلياذة مثلاً، وبعد الصراع ما بين الإغريقين والطرواديين، اختتمت بالمبارزة بين آخيل وهكتور، يسقط هكتور ويدور آخيل في الميدان وهو يجر جثمان القتيل. فرجيل أيضاً يختتم الالياذة بمبارزة من بين تورنو واينياس"..

وعندما بدأ الشاعر الفلسطيني غسان زقطان كتابة الشعر، قال سأحاول المقارنة بين "جمهور الشعر المصغي والمتطلب، الذي يحاول ان يضع بدوره خطوطاً للنص في مخيلته، والقياس على النص المحمول على صوت الشاعر، ثم تحويل الأمر إلى خبرة شخصية تتداخل فيها النبرة والموسيقى باللغة". وسأجد تلك المناطق المشتركة بين الجمهورين في نزعة التلقي نفسه، في البحث عن المهارة التي تتحول في مستوياتها العليا الى ارتجال.

لا نستطيع في عجالة واحدة تسليط الضوء على كل ما ورد في الكتاب في تشعباته وأهواء المشاركين فيه، فبعضهم يبدو باحثاً ومعلقاً، وبعضهم الآخر يقدم نصا ذاتياً، وثمة من يكتب القصة أو السرد، على طقس يومي وموسمي يدخل بيت، وهو في المعادلة الشعرية "أشرف الحروب".

(*) الكتاب بالعربية والإنكليزية (النسخة الواحدة باللغتين) أعدّه وحرر الصحافي معن البياري وصدر عن "العربي الجديد".