... وإذ بالعونيين في المعارضة!

رشا الأطرش
الجمعة   2022/11/04
"سامحنا جنرال لأننا لم نقطع ألسنتهم"!
خرج ميشال عون من القصر الرئاسي، والعونيون الآن في المعارضة. لكن الرفاق حائرون، في أنفسهم، في جمهورهم وفي خصومهم الذين يعارضونهم ويشتبكون معهم.

هم المعارضون العاطفيون، الذين يستدلون ببكاء الجنرال خلف البرّاد. "الجبل"، وحساسيته وهشاشته الإنسانية الغامضة التي لم يُعرف لها وجع بطن أو اكتئاب شيخوخة أو حتى خِلافاً عائلياً.


وهم معارضو السلطة التي غادروها منذ خمس دقائق، لكنهم ما زالوا يتحدثون بلهجتها وشروطها. فتقول إحدى ردّاديهم في مقابلة تلفزيونية إن الجنرال لم يستقبل أهالي ضحايا انفجار المرفأ لأنهم كانوا يشتمونه ورفضوا تخفيف لهجتهم كي تُفتح لهم أبواب القصر. ورغم ذلك، على حد قولها، فقد تبرّع "بيّ الكل" بمخصصاته كرئيس للجمهورية للأهالي. وهي للأمانة تُخالف زملاءها في أن العِماد هو "بيّ الكل"، لأن ثمة من لا يستحق أن يكون ميشال عون أباه. وفي هذه معها حق الرفيقة.. لأنه "كان يعلم".


وأحياناً، يحدث أن يبتدع العونيون، بحَرَسهم القديم وشبابهم الجديد، ذاك "الميكس" الذي لم يستطعه سواهم، بين العاطفة الانبطاحية، مهيضة الجناح، المتألمة، وبين شبق السلطة القمعي. وليس أبلغ من تلك الرسالة الطويلة التي خُطّت في يافطة لتُرفع أمام قصر بعبدا في يوم الخروج وسِفرِه، وفيها: "نعتذر منك جنرال، سامحنا فخامة الرئيس، ما قدرنا نقطع كل لسان أساء لك". كأنهم "حزب الله" و"أمل" حينما يؤتى على ذِكر زعيمَيهما، أو الإسلاميون السنّة حينما غاروا على نبيّهم المغدور في كاريكاتير، فنزلوا إلى الشارع يكسّرون ويركلون.

هم الأولاد أنفسهم، بالهياج الغاضب نفسه، مع وقف التنفيذ... أو بالمُضيّ فيه على طريقة ما فعلوا في استديو "صار الوقت" وحول مبنى "إم تي في". هناك، انتقلوا إلى مرحلة متقدمة في اللعبة حيث اكتسبوا "حياة" افتراضية جديدة وارتقوا مقدر كعب إلى مصاف معارضين شبيحة.

هم تقليد "الثنائي الشيعي" و"القوات" و"المستقبل" في أيامه و"الاشتراكي"، في رزمة واحدة، ربطة المعلّم. المظلومية، واستعراض التخريب، والخطاب السياسي والفئوي والتحريضي... سوية. خاسرون وورابحون، هُم، في اللحظة عينها، أو لحظة بعد لحظة.

حتى الماضي مُشوّش في أذهانهم. مَشاهد "القَتلة" في تسعينيات الكرّ والفرّ، ومَشاهد التحرّش الغاضب ثم "القَتلة" حول مبنى "إم تي في"، ومَشاهد الانتصار بالمقلوب في بعبدا 1990 والتي استعيدت لدى خروج ميشال عون من القصر الجمهوري.. فخر أم كبوة؟ تجنٍّ أم مقاومة؟ ذكرى حزينة أم سعيدة؟ وحدهم يعرفون، أو لا يعرفون.

والضحك القاتم الذي قد يرافق كل ما سبق، لا يلبث أن ينقلب وجوماً بمجرد التنبه إلى أن غزوة "إم تي في" تزامنت، فوق كل مآسي الانهيار اللبناني اقتصادياً واجتماعياً وصحياً، مع مقتل الطفلة ماغي محمود بسقف مدرستها المنهار في طرابلس، ووفاة الطفل أسعد عز الدين الذي بالكاد بلغ عامه الأول ورفضت مستشفيات البقاع استقباله، وقبلهما حكايات وحكايات عن الموت المجاني المعشش على حواف القصور من دون التجرؤ إلا على اقتحام أكواخ التنك الحرفية والرمزية حيث يعيش بقية اللبنانيين ويتعلمون ويُعالَجون ويحاولون مقاضاة مُفجّري المرفأ وبيوتهم وأحبائهم.. بالأحرى، حيث لا ينالون شيئاً من ذلك.... وتحت سقف الموت هذا، مصائب وأهوال لا تنضب، آخِرها الأنهار التي تدفقت شرقي بيروت، قبل ساعات من ماتش المصارعة في مقرّ "ام تي في"، فأغرقت البشر والسيارات، وانسالت تحت أبواب الأرزاق والبيوت وبين حجارة الطرق المُغرقة أصلاً في النفايات ومجاري الكوليرا ذات الأغطية المسروقة...

لكن العونيين في المعارضة، ومَن يحتاج سُلطة في ظل معارضة كهذه؟ هم الذين لا بد أن نعترف بقدرتهم على التركيز على مصدر واحد شبه وحيد للاستفزاز المُستدعي غضبهم، الإساءة للجنرال (ورسائله)، وصهره، وموظفيهما في الدولة وعلى جوانبها. وأحياناً مذمّات المسيحيين، على حسب أي مسيحيين.

كاملو التركيز والانتباه، العونيون المعارضون. سِهام الليزر المُشعّة من أحداقهم الثاقبة لا تخطئ الدائرة البرتقالية وسط الدوائر السوداء الأكبر في الدريئة نصب عيونهم. لا يشتتهم عنها مُصاب ولا تثنيهم مأساة عن التسديد على تلك النقطة القزمة في الوسط، وسطهم وحدهم. خصوصاً إن وقعت في تلك البلاد البعيدة، في البقاع أو الشمال أو الجنوب أو بيروت أو الجبل، حيث لا شعب عظيماً، أي حيث لم يحظ أولئك السكان الآخرون برئيس للجمهورية أو حكومة أو قاضٍ، ولا حتى حاجب مُعيَّن بتوافق المتحاصصين.